الطريقة التي تعامل معها ترامب مع نتائج الانتخابات، تشبه ذهنية ترامب في التعامل مع بلدان الشرق الأوسط، وهو إرث سيكون ليس بالسهل على إدارة بايدن وسيواجه أما بعرض إستراتيجية في تقليل آثاره، أو البقاء على الوضع مما هو عليه، وأتصور أن الخيار الأول هو الأرجح...
بالرغم من أن الرئيس الأمريكي المنتهية ولايته دونالد ترامب لم يحضر مراسيم تنصيب الرئيس المنتخب جون بايدن، ولم يعترف بفوزه على الإطلاق، وكانت تصريحاته سبباً رئيساً في اقتحام الكونغرس الأمريكي، إلا أن ترامب سلم لبايدن إرثا كبيرا من المشاكل في بلدان الشرق الأوسط.
إذ أن تعامل ترامب مع الشرق الأوسط يكاد يكون بذات الطريقة التي تعامل معها في نتائج الانتخابات الرئاسية الأخيرة في الولايات المتحدة، حيث اعتقد أن الانتخابات مزورة ولابد أن تعاد نتائجها، وقد دعا قبل ساعات من اجتماعات الكونغرس الأمريكي لإقرار نتائج الانتخابات إلى مظاهرات حاشدة وصلت إلى حد أن مؤيديه اقتحموا باحة مجلس الكونغرس أعلى سلطة تشريعية بعد مجلس الشيوخ، وعبثوا بمحتويات المجلس وسرقة ملفات هامة لرئيس المجلس نانسي بيلوسي إحدى أبرز القيادات في الحزب الديمقراطي، في محاولة لتعكير الإقرار بفوز بايدن وهو ما أثار موجة سخط داخل الرأي العام الداخلي الأمريكي، وصوت مجلس النواب الأمريكي على عزل ترامب، وإحالة الموضوع إلى مجلس الشيوخ وهو ثاني تصويت لعزل الرئيس والأول من نوعه في التاريخ الأمريكي كتصويت على عزل الرئيس مرتين في ولاية واحدة رغم أن المدة المتبقية آنذاك لم تكفي لإجراءات عزل الرئيس، مما أعطى ذريعة لعدم تأييد الجمهوريين لعملية التصويت، وقد كان الديمقراطيين يدركون ذلك أيضا لكنهم أرادوا إنهاء أي حظوظ سياسية مستقبلية لترامب وعائلته.
وبالتالي أن الطريقة التي تعامل معها ترامب مع نتائج الانتخابات بدأت من الساعات الأولى بعد الانتخابات والتي أعلن في مؤتمر صحفي مع فريقه وعائلته عن فوزه في الانتخابات وحتى مرحلة التنصيب الرسمي لبايدن، تشبه ذهنية ترامب في التعامل مع بلدان الشرق الأوسط، وهو إرث سيكون ليس بالسهل على إدارة بايدن وسيواجه أما بعرض إستراتيجية في تقليل آثاره، أو البقاء على الوضع مما هو عليه، وأتصور أن الخيار الأول هو الأرجح.
الموضوع الأول انسحاب إدارة ترامب من الاتفاق النووي مع إيران وملاحقة نفوذها الإقليمي، وهو ما زاد منطقة الشرق الأوسط والمنطقة العربية على وجه الخصوص المزيد من التوتر وفرض إدارة ترامب العديد من العقوبات على إيران شملت كل المجالات والقطاعات ولم تنقطع عن ذلك حتى قبل تنصيب بايدن بيومين فقط، إلى جانب استهداف أهم منفذي الإستراتيجية الإيرانية في المنطقة السيد قاسم سليماني، ورفيقه السيد أبو مهدي المهندس قرب مطار بغداد في العراق.
وهذا السلوك الأمريكي بشقيه الأمني والاقتصادي كان يمثل ارتياح لإدارة ترامب ودعما لحلفائها في منطقة الشرق الأوسط، حيث أن إسرائيل من أشد المتحمسين لتضيق الخناق على إيران، وقد كانت تؤيد إدارة ترامب في تصعيد أكبر، وكل التكهنات كانت تقول أن إدارة ترامب ستوجه ضربات لإيران إذا ما فاز في ولاية ثانية، وأما بعد خسارته الانتخابات فقط كان على مقربة من ذلك، وأعتقد أن التوتر الذي أحدثته عملية دخول مؤيدي ترامب إلى الكونغرس صب في صالح تعطيل الضربات المقررة في محاولة من ترامب لتأجيج الوضع في منطقة الشرق الأوسط وإحراج إدارة بايدن الجديدة في الوقت نفسه، لاسيما وأن أي خطوات تصعيدية ستواجهها إيران في ضرب حلفاء الولايات المتحدة من الدول الخليج الغنية بالنفط كالسعودية والإمارات والبحرين.
ومما تقدم، فإن إدارة بايدن ستواجه التوتر الأمريكي الإيراني على خلفية انسحاب إدارة ترامب من الاتفاق النووي مع إيران بحلول أكثر عقلانية ومنها التوصل إلى اتفاق معتدل مع إيران قد يشمل إضافة إلى البرنامج النووي الإيراني نفوذ إيران في المنطقة العربية كالعراق وسوريا ولبنان واليمن، ودعم مجموعات مسلحة في تلك البلدان كحزب الله، والحشد الشعبي، وأنصار الله الحوثيين، وهو ما تسميه إيران بصورة رسمية بمحور المقاومة، هو المحور الذي يثير مخاوف حلفاء واشنطن من هنا هم يطالبون بالتصعيد مع إيران بصورة تجعل هذه البلدان مطمئنة في تحجيم نفوذ إيران ومخاطر برنامجها النووي على حد وصف تلك البلدان، وأشار بايدن في مقابلة مع شبكة سي ان ان: "لا يمكننا السماح لإيران بوضع أسلحة نووية تحت تصرفها"، منتقدا في نفس الوقت نهج إدارة ترامب تجاه طهران، ورأى في هذا الشأن أن الاتفاق الذي يضبط التطوير النووي الإيراني هو "أفضل أداة لضمان الاستقرار في المنطقة".
الإرث الثاني تعامل بايدن مع جبهة الصين الصاعدة اقتصاديا بعد توتر علاقة الولايات المتحدة في عهد إدارة ترامب مع الصين، حيث وصلت إلى مراحل فرض العقوبات من قبل إدارة ترامب على الصين قابلتها الصين بإجراءات مماثلة، وبقى ترامب يوجه جملة من الاتهامات إلى الصين من ذلك تحميلها مسؤولية إيجاد وباء كورونا فيروس، وانتشاره في العالم والولايات المتحدة على وجه الخصوص، من أجل ضرب اقتصادها.
بايدن سيواجه هذا الملف بتفاصيله المتوترة وقد لا يرى ضرورة في اتخاذ إجراء ضد الصين بسبب المزاعم بأن سلطات هذا البلد لم تمنع انتشار الفيروس، وقال في هذا الشأن: "نهج الرئيس دونالد ترامب تجاه الصين جاء بنتائج عكسية"، لافتا إلى أن الهدف ليس معاقبتهم على فيروس كورونا، ولكن الإصرار على التزامهم بالمعايير الدولية المعمول بها وأوضح بايدن أن موقف واشنطن فيما يتعلق ببكين يجب أن يتركز على التالي: "إذا التزمتم بالقواعد، فسنلعب معكم، وإلا فلن نفعل".
وفي الوقت ذاته، يرى بايدن أن الصين تسعى إلى سرقة (أسرار الدولة والتقنيات المتطورة الأمريكية)، محذرا إياها من الاستمرار في هذه السياسات، وبالتالي فإن بايدن سيختبر الصين على الأقل في السنة الأولى من ولايته، وإذا ما رأى تغيير في السياسات الصينية اتجاه الملفات الاقتصادية والصناعية فقد يبدلها بخطوات مقابلة قد تقلل من التوترات الحاصلة، ولا أتصور أن الموضوع هذا بالأمر السهل كونه متعلق في السيطرة الاقتصادية وأي ضعف من أي طرف سيقابله صعود أقوى من الطرف الثاني، وهذا ما لا يرغب به الطرفان، خاصة إذا ما كان صعود الصين يهدد حلفاء الولايات المتحدة جغرافيا واقتصاديا من جملة تلك الدول اليابان وكوريا الجنوبية والفلبين والهند وغيرهم.
وبالتأكيد فإن العقدة الإيرانية والصعود الصيني يشكلان إرثان معقدان بالنسبة للولايات المتحدة وتهديد واحد إلى جانب روسيا الخصم التقليدي، ومما تقدم فإن كل التقديرات تشير إلى أن إدارة بايدن ستتعامل بطريقة مختلفة عن تلك التي تعاملت بها إدارة ترامب، أولا لاعتقاد بايدن وعموم أعضاء الحزب الديمقراطي بعدم عقلانية ترامب وعدوانيته، حماقاته في مرحلة قبل الانتخابات الرئاسية وبعدها.
لاسيما وأن بايدن يعد امتدادا إلى ذات المدرسة الاحتوائية في عهد الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما كون الأخير من أبزر الداعمين له إضافة إلى علاقته به عندما كان بادين نائبا لطوال ثماني سنوات، مما قد يكون عهد بايدن نسخة أكثر تحديثا من إدارة أوباما، رغبة من بايدن في مغادرة مرحلة دونالد ترامب كليا على المستويين الداخلي والخارجي، فيما تبقى الخيارات التصعيدية مرتبطة بمقدار الخطورة الذي تحدده الأجهزة المخابراتية التي قد تشكله الدول المشار لها والتهديد الحقيقي الذي تشكله للمصالح الأمريكية وحلفائها في منطقة الشرق الأوسط.
اضف تعليق