لا تترك جائحة كورونا كوفيد- 19 شيئاً إلاّ واستفزّته، حتى لكأنها تعيد البديهي من الأشياء، ولأنها لا تستثني أحداً، الغني والفقير والرئيس والمرؤوس والمريض والطبيب، فقد أعادت التفكير بالمساواة والتعاون بين البشر لمواجهة هذا الخطر الغامض والداهم، وكأنها تذكّرنا بقانون الطبيعة، حيث خُلق الناس بأشكالهم وألوانهم وأجناسهم وألسنتهم وأديانهم وعروقهم وانحداراتهم الاجتماعية...
لا تترك جائحة كورونا كوفيد- 19 شيئاً إلاّ واستفزّته، حتى لكأنها تعيد البديهي من الأشياء، ولأنها لا تستثني أحداً، الغني والفقير والرئيس والمرؤوس والمريض والطبيب، فقد أعادت التفكير بالمساواة والتعاون بين البشر لمواجهة هذا الخطر الغامض والداهم، وكأنها تذكّرنا بقانون الطبيعة، حيث خُلق الناس بأشكالهم وألوانهم وأجناسهم وألسنتهم وأديانهم وعروقهم وانحداراتهم الإجتماعية متساوين ومختلفين في آن، الأمر الذي يقتضى تعاونهم، فالإنسان كائن اجتماعي بطبعه ومدني بفطرته وهو ما شاع على لسان أرسطو ومن بعده عبد الرحمن بن خلدون الذي أضاف تميزّه بالعقل.
لم يدعْ الفايروس لحظةٍ تهرب من بين أصابعنا، لأن عكسها سيعني الإستسلام، وهكذا تتحوّل الطاقة الإيجابية التي يحملها الإنسان إلى الضد منها، فكان لابدّ من الإستعانة بالذاكرة للتدوين والكتابة على الرغم من أنها أحياناً تمطر وحشةً وغموضًا بقدر ما يفوح منها عطراً وأملاً، ولكل شخص ذاكرته التي تشبهه، وبقدر ما هي واقعية فأحياناً يدخل عليها عنصر التخيّل لإعادة تأثيثها.
وكلام الحَجِر الذي ما يزال يجثم فوق الصدور تتزاحم فيه الأيام والليالي، بل والسويعات، بعضها بحزن شديد وبعضها بلا أبالية أحياناً حد الضجر، أو بأمل مستنفر، حين يبدأ الحوار مع الذات التي تحتاج إلى كشف بعض مكنوناتها في لحظة مصارحةٍ، ليس لماضيها فحسب، بل لحاضرها ومستقبلها أيضاً، فالذاكرة مستودع كبير لكثير من الحكايات والأسرار والمعلومات، فما بالك حين تُقدّم بحبكة درامية لتجارب مريرة ومثيرة تعكس ثقافة صاحبها وعمق أفكاره، وهذه تحتاج بالطبع إلى محفزّات لفكّ ألغازها وفتح أقفال خزائنها.
في هذه الأجواء قرأت رواية “الشجرة الهلامية” لعبد السلام بو طيب الحقوقي المغربي والسجين السابق ومنظم مهرجان الناضور السينمائي التي تتحدث عن رجل يتم حجره 100 يوم في باريس، ولم يبق أمامه سوى حوار مع الشجرة التي تنتصب أمام بيته، حيث يأتيه صوتها خفيفاً متموجاً يشبه الأثير في مدينة الجن والملائكة في لغة غامضة لا يفهمها إلاّ هو وصديقته الشجرة التي يغنّجها بـ “دولوريس” والتي تذكرّه بالشجرة الهلامية في منطقة الريف، فيتبادل طرفا الحوار المواقع: هو والشجرة ويتقاسمان الأصوات لدرجة أنك لا تفرق بينه وبينها أحياناً ، حيث تختلط الصور والأصوات والآراء .باستعادة ذاكرته السجينة، يقول إن كل شيئ هناك يتغير: الزمن والعادات والأشياء، لذلك عليك أن تستعيد توازنك، باستذكار نيلسون مانديلا، الذي كان طيلة سنوات سجنه التي استمرت 27 عاماً يزرع أشجاراً في قنينات الزيت الفارغة من سعة 5 ليترات ويعتبرها الوحيدة الحرة، أي من صديقاته وأصدقائه الأحرار.
وسادة خالية
كان الوطن في الحجر يعني لعبد السلام “وسادته الحبيبة” التي افتقدها، والوطن حسب محمود درويش “هو هذا الإغتراب الذي يفترسك”، وهكذا قدّم بو طيب في سرديته الزمن من خلال وسادته، التي ظلّت خالية ووحيدة تذكّرنا “بالوسادة الخالية” وهي رواية كتبها إحسان عبد القدوس وقدّمها المخرج صلاح أبو سيف في العام 1957 في فيلم من بطولة عبد الحليم حافظ ولبنى عبد العزيز. يتعاشق في ذاكرة بو طيب سجن الماضي ورحابة الحاضر، بما فيها فترة الحجر، فالذاكرة يمكن أن تحوّل الإنسان إلى رهينة لها أو حتى ضحية، في حين أن الصفح والغفران والمقصود التسامح يحولها إلى شيء إيجابي دون أن يعني نسيان الماضي، فحتى حين أريد هدم السجن الذي قضى فيه سنوات شبابه الأول تبدأ ذاكرته المعترِضة بالتحرك: لا يحق لهم هدمه لأنه جزء من ذاكرتنا… كان ينبغي تعليق لوحة بأسماء الضحايا يكتبون عليها هؤلاء اختلسنا منهم شبابهم ومرّغنا كراماتهم بالتراب ومع ذلك غفروا لنا، والجملة الأخيرة على لباقتها تعني الكثير لأنها تندرج في صلب مسار العدالة الإنتقالية الذي شهده المغرب في نهاية التسعينات من القرن الماضي، وهو ما يذكّر بالطاهر بن جلّون الذي فتح صندوق خزانته ليعرض في سرديته ألمه النفسي بعد عقود من الزمان في روايته “تلك العتمة الباهرة” التي استكملها بروايته “العقاب”، وهي إحدى روائع أدب السجون.
علينا التمييز بين أربع أنواع من الذاكرة:
الأولى- الذاكرة الإنفعالية وهي ذاكرةٌ إرادوية يتم إسقاطها على الواقع.
الثانية- الذاكرة الحسّية أي استعادة الأحوال والأهوال كوقائع ومفردات وتفاصيل يمكن تكييفها حسب قراءة الروائي والمؤرخ والشاهد والمشارك .
الثالثة- الذاكرة المنظّمة وهذه تقوم على استذكار واستخلاص المعاني والدروس والعبر التي تنتظم الذكريات في إطارها، استناداً إلى المادة الأولية (الخام) وصولاً إلى الدلالة بفعل التحقّق، مع إضافة التفسيرات والتأويلات على النص أو الحدث أو الواقع المعيش.
الرابعة- الذاكرة المحفّزة وتبدأ مع الذاكرة الأولى، وفيها حنين (نستولوجيا) لاستذكار الزمن وإعادة قراءته على نحو جديد ، لا سيّما بعد تجارب عديدة، بما فيها ما هو ناجح وفاشل. بهذه الصورة أرّخ بو طيب لذاكرته بروح شفيفةٍ وحساسية إنسانيةٍ ولغةٍ رشيقة وموسيقى جذّابة بكتابةٍ وصور سينمائية وبصرية باهرة كل ذلك لمواجهة فايروس كورونا.
اضف تعليق