q
لقد كانت صورة الصين في اذهان العراقيين، لاسيما في النصف الثاني من القرن الماضي، الدولة التي تمثل تطلعات الشيوعية (الحقيقية) بعد ان (انحرف) الاتحاد السوفيتي وصار يهادن الغرب! وقد كان من نتائج ذلك انقسام الحزب الشيوعي العراقي في ستينيات القرن الماضي بين السوفييت والصينيين، فالراديكاليون ممن ارادوا السلطة وظل يمنعهم عنها السوفييت لحسابات لم يعرفوا اسرارها...

اذ جاز لي ان اجنّس كتاب (الصين .. مخالب التنين الناعمة) لمؤلفه د. طه الجزّاع فلن اتردد في تسميته (رواية سيرة دولة) .. نعم، فالدول لها سير كالبشر تماما، ومثلهم ايضا، تولد وتكبر وتتزوج وتطلق، وتمرض وتصحو، ولها خصومات وصداقات .. الخ .. والصين الدولة التي عاشت طويلا في عزلة خلف سورها الاسطوري، انطوت سيرتها على مواقف وحكايات وافكار ورؤى وممارسات، ظلت غير معروفة للكثيرين في العالم، باستثناء المهتمين والطامعين ممن كانوا يرصدونها باعين نهمة للانقضاض على ثرواتها والفوز بموقعها، وبالتأكيد ايضا بسوقها الكبيرة، حين كانت مجرد سوق لبضائع الآخرين ومرسى كبيرا لسفنهم التي قصدتها غزوا وتجارة!

لقد كانت صورة الصين في اذهان العراقيين، لاسيما في النصف الثاني من القرن الماضي، الدولة التي تمثل تطلعات الشيوعية (الحقيقية) بعد ان (انحرف) الاتحاد السوفيتي وصار يهادن الغرب! وقد كان من نتائج ذلك انقسام الحزب الشيوعي العراقي في ستينيات القرن الماضي بين السوفييت والصينيين، فالراديكاليون ممن ارادوا السلطة وظل يمنعهم عنها السوفييت لحسابات لم يعرفوا اسرارها، انحازوا للصين (الماوية) وتبنوا (الكفاح المسلح) وسيلة للوصول الى السلطة، بينما بقي (المعتدلون) في المعسكر السوفييتي، وقد دفعنا ثمن هذا الانقسام .. فالصين التي كان يصلنا منها، وقتذاك، وجهها العقائدي، وبشكل مقنن من خلال المجلة الشهيرة (بناء الصين)، غيّبت عنا الكثير من الصين الحضارية بثقافتها وواقعها الديموغرافي الخصب.

حسب معلوماتي المتواضعة، ان احدا من العرب لم يرصد سيرة الصين وتحولاتها المثيرة، في ثقافتها وسياستها، كما رصدها كتاب الجزّاع الذي احاط بهذا المد البشري المتلاطم وبإسلوب جمع بين العمق والدقة والسلاسة في الطرح، بعيدا عن اي مؤثر عقائدي او سياسي، اذ كثيرا ما وقف الاخير حائلا بين القارئ والكاتب، فغابت حقائق كثيرة ومهمة عن هذا البلد الذي اسهمت امواج السياسة والصراعات العقائدية في تغييب الكثير عنه .. الجزّاع بهذا الكتاب اراد ان يوصل رسالة ثقافية سياسية وبتجرد حقيقي، ليشبع فضول كثيرين اثارته فيهم نهضة هذا التنين العملاق الذي شغل العالم واقلق الكبار فيه.

لقد عاد المؤلف بنا الى تاريخ الصين، قديمه وحديثه وصولا الى المعاصر منه، ووقف عند محطات تاريخية مهمة لعبت دورا في حياة الشعب الصيني وأثرت في مزاجه ومن ثم في وجهته السياسية .. يتوقف الجزّاع عند مرحلة قاسية من الاضطهاد والتفاوت الطبقي الحاد، ستجعل الشعب الصيني متقبلا للشيوعية وشعارها في العدالة الاجتماعية، تحت ضغط هذا الارث الثقيل.

فالصين التي تتجاور فيها ثلاث فلسفات، التاوية والكونفوشية والبوذية، ارتدت اخيرا ثياب الماركسية اللينينية، واسست لحضارتها الحديثة من تلك المرحلة التي رافقها جدل كبير وطويل، سواء على مستوى الممارسات الداخلية أو علاقاتها الخارجية التي تداخل فيها البعد العقائدي بالواقعية السياسية، لاسيما مع الولايات المتحدة الاميركية، وقبل هذا مع الحليف اللدود، الاتحاد السوفييتي، الذي استبطن الصراع معه ابعادا اخرى، قومية مضمرة وتطلعا لزعامة العالم الشيوعي، وكان من نتائج ذلك، الطلاق الكبير بين الرفاق وتداعياته الكبيرة على الحركة الشيوعية في العالم بعد ان تبنت الصين الماوية (الكفاح المسلح)، خلافا لرؤية السوفييت ايام خروتشوف القائل بضرورة (التعايش السلمي) بعد تجربة الحرب العالمية الثانية التي كانت الصين تتحرك تحت ظلالها وتبحث عن نفسها بعيدا عن القرار الدولي الذي تحكم به الكبار ورسموا من خلاله خرائط سياسية وجيوسياسية، لايعرفها الرفاق الصينيون فاندفعوا خلف حماستهم العقائدية، لاسيما في كوريا حين دفعوا رفيقهم (كيم ايل سنغ) للتوجه جنوبا بقصد ضمه للشمال الشيوعي فتسببوا بحرب مرعبة انتهت كما بدات (لاغالب ولامغلوب) او كما رسم الكبار الثلاثة (روزفلت وستالين وتشرشل) في القرم العام 1945 حين تقاسموا النفوذ في العالم ووضعوا الخطوط الحمر التي لاينبغي لأي منهم تجاوزها.

هذا الكتاب يصعب، بل يستحيل عرضه، لأنه زاخر بالمعلومات الموثقة وعن مصار رصينة ومعروفة، بدا فيها الجهد البحثي للمؤلف واضحا، مثلما كانت دقته وذكاؤه واضحين وهو يلتقط المهم باستمرار ويضعه في سياق الفصل الذي يتوقف عنده، ليجعله خلفية للسرد الذي يأتي متدفقا ليشبع موضوعته ويضع القارئ امام حقائق ومواقف واحداث مرت بهذا البلد واسهمت في صنع مستقبله، فبحكم ثقافة الجزّاع الفلسفية وخبرته اكاديميا وكاتبا وصحفيا متمرسا، كان يستشهد بالمدونة الثقافية التي رافقت الكتاب منذ البداية وتوزعت مناح مختلفة فيه، اذ ظل البعد الثقافي حاسما في سيرة هذا البلد الكبير، ولعب دورا في بنائه سياسيا ايضا، لذا ركز المؤلف عليه باستمرار وبذل جهدا كبيرا ليوضح اثره في سيرة السياسة الصينية والمزاج الشعبي الذي يستثمرها.

في بداية ثمانينيات القرن الماضي، قرات كتاب (زعماء عرفتهم) للرئيس الاميركي الاسبق نيكسون، نشرته على حلقات مجلة (المجلة)، وتوقفت عند الفصل الخاص ب (شو آن لاي) رئيس وزراء الصين في عهد ماوتسي تونغ، وقد اعادني الجزّاع الى تفاصيل ذكرها نيكسون عن لاي واضاف اليها تفاصيل اخرى حصلت في تلك الزيارة التاريخية التي جرت العام 1972 ووقف خلف ترتيبها وزير الخارجية الاميركي الاسبق كيسنجر وعدّت البداية الحقيقية لعلاقة ستراتيجية بين البلدين، ربما فرضت نفسها لاحقا عليهما بعد ان بات تلاقيهما ضروريا لخدمة بلديهما والعالم، حيث اصبحا بثقل اقتصادي متوازن تقريبا ومؤثر في حياة البشرية كلها .. لقد ابدى نيكسون انبهاره بقدرة الصينيين التفاوضية، بعد ان ظنوا انهم (سيأكلونهم اكلا)! لتبدأ رحلة جديدة من علاقات اتسمت بالمد والجزر، قبل انتهاء الحرب الباردة وبعدها، فالتنافس هذه المرة ليس كما كان مع السوفييت، على زعامة العالم الشيوعي، بل على زعامة العالم الاقتصادي، ولكسر الاحادية القطبية التي تجلت بشكل غير مسبوق ومروع ايضا، مطلع تسعينيات القرن الماضي، بعد انهيار المعسكر الاشتراكي ودخول العالم حقبة فوضوية مازالت تسحل بالعالم نحو منحدرات مخيفة.

لقد رصد الجزّاع سيرة الصين من خلال طروحات واقوال فلاسفة ومفكرين ومتصينيين سحرتهم تلك البلاد الشاسعة وعادوا منها بغلّة مغرية من الكتابات والتصورات، امثال هادي العلوي وجلال الحنفي وشخصيات عربية اخرى، وتوقف عند الواقع الديموغرافي لتلك البلاد وكيفية ضبط معادلته اجتماعيا وسياسيا وسط امواج السياسة الصينية بوهنها العام ومن ثم نهضتها تحت ظلال الراديكالية الماوية ومن ثم اعتدالها السياسي وانعكاسه على واقعها الاجتماعي المتنوع، وقد عمد المؤلف ان يجعل لكل وقفة من وقفاته في ميادين التاريخ الصيني المتعددة، مرجعية تاريخية ينطلق منها وهو يتجول في سفر هذه البلاد، بدءا من حرب الافيون الشهيرة ضد البريطانيين في القرن التاسع عشر، والتي عكست واقع الصين المفككة والهزيلة وما فرضته عليها تلك الحرب من استحقاقات قاسية وكبيرة، وصولا الى نهضتها الاولى على يد الفيلسوف الثائر صين يات صين الذي انهى حكم اسرة تشينج في العام 1912 وتأسيسه الجمهورية ومن ثم الحرب بين القوميين (الكومنتانج) من اتباع هذا الزعيم المحبوب الذي رحل في العام 1925 وخلفه شيانج كاي شيك، وبين الشيوعيين، والتي مثلت بداية لتعاون ستراتيجي بينهم وبين السوفييت ايام ستالين، لاسيما في حرب منشوريا ضد اليابان التي انتهت بتحريرها في العام 1945 والتي لم يتوقف عندها المؤلف بما تستحق، كونها تمثل مرحلة مثيرة جدا من تاريخ الشعب الصيني، وصولا الى انتصار الشيوعيين العام 1949 وطردهم القوميين (الكومنتانج) الى جزيرة تايوان التي ستصبح المشكلة الاكبر التي مازالت تؤرق الصين الشيوعية الى اليوم، بعد ان تسببت بحرمانها من حقها في المقعد الدائم بمجلس الامن الدولي طويلا. وانتهاء بمشتبكها السياسي الحالي ودورها الدولي المتعاظم على مختلف المستويات.

لقد كتب الدكتور عبدالحسين شعبان مقدمة مهمة للكتاب، اذ يرى ان الصين شهدت قطيعة ابستمولوجية (معرفية) مع التاريخ والفلسفة القديمة ايام الثورة الثقافية (ايام ماو تسي تونغ) .. وان السياسة الجديدة تنطلق من تاريخ الفلسفة الصينية، وفلسفة التاريخ الصيني تعني تطليق مرحلة التزمت الايديولوجي والشعارات اليسارية الرنانة، حيث لم تعد شعارات (الكفاح المسلح) و(الامبريالية نمر من ورق) و(كل شيء ينبت من فوهة البندقية) هي السائدة دليلا على الثورية والزعم بامتلاك الحقيقة وادعاء الافضلية.

ويخلص الدكتور شعبان الى ما معناه، ان قراءة الصين بوصفها تجربة حيّة تمثل ضرورة لتمثلها والافادة منها، ونحن نرى ان هذا الجهد المعرفي يجب ان لايبقى اسير المكتبات العامة بل يجب ان يدرّس في كليات العلوم السياسية، لما يمثله من لوحة بانورامية متكاملة للصين، تداخل فيها السياسي بالثقافي والتاريخي بالمعاصر، مع اطلالة انسانية واسعة ساحت بينها قراءات المؤلف وهي تقطف الكثير من ثمار الرحّالة والباحثين والمهتمين وهم يدونون مشاهداتهم عن هذا البلد العظيم .. وقد كنت اتمنى على الجزّاع لو انه اقتطع من وقته بضعة اسابيع ليتجول في الصين كي يرصع بمشاهداته الشخصية، فصول هذا الكتاب المهم لكان قد اضاف اليه الكثير، لكن مع هذا يبقى ما دونه من مشاهدات الآخرين الثقاة جعلنا نشعر وكإننا نتجول بين ربوع الصين او فوق سورها العظيم!

الكتاب صدر عن دار دجلة وجاء ب( 256) صفحة من القطع فوق المتوسط.

..........................................................................................................
* الآراء الواردة في المقال قد لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية.

اضف تعليق