أفق المغايرة والاختلاف من الآفاق المهمة لأي ثقافة، لأنه يوجهها إلى أسئلتها الخاصة، وتحدياتها الملحة ويدفع باتجاه الحوارات النقدية مع الثقافات الأخرى. حينما تذعن ثقافة لأخرى، فإن آفاق الحرية والإبداع والراهنية تتقلص وتصل إلى حدودها الدنيا، لأنها تصبح ثقافة تتجه صوب المطابقة المميتة، دون أن تتحرر...
من البديهي القول: إنه لا يمكننا أن نمارس فعل الحياة على أكمل وجه، إلا بتدشين وتأسيس قيم الحضارة في الفضاء الثقافي والاجتماعي، فهي الوسيلة الفعالة لتنمية شروط التقدم في مجالنا الاجتماعي والحضاري، وإليها يعزى الفضل في مشروعات التنمية الناجحة التي خاضتها العديد من الشعوب والمجتمعات.
ولكن بداية النهاية لأية ثقافة، هي حينما تتجه إلى اختزال وقائعها ومفاهيمها في البحث عن الأشكال المتوافقة أو المنطبقة مع مفاهيم وأشكال الثقافات الأخرى، دون الالتفات إلى الشروط التاريخية والاجتماعية لكلتا الثقافتين.
فأفق المغايرة والاختلاف من الآفاق المهمة لأي ثقافة، لأنه يوجهها إلى أسئلتها الخاصة، وتحدياتها الملحة ويدفع باتجاه الحوارات النقدية الواعية مع الثقافات والمكونات المعرفية الأخرى.
ولا شك أنه حينما تذعن ثقافة لأخرى، فإن آفاق الحرية والإبداع والراهنية تتقلص وتصل إلى حدودها الدنيا، لأنها تصبح ثقافة تتجه صوب المطابقة المميتة، دون أن تتحرر من أسر وهيمنة الثقافة الغالبة.
وكما يبدو فإن الثقافة المبدعة، هي التي تتمكن من بلورة أفق الاختلاف الثقافي والفكري، دون أن تقطع أواصر التواصل والتفاعل الخلاق مع الثقافات والقناعات الأخرى.
فوهم المطابقة مميت للثقافة، فلا حياة ثقافية إلا بأفق المغايرة والاختلاف، وأية ثقافة تطرد من واقعها هذا الأفق بتداعياته وممكناته ومتطلباته، فإنها ثقافة لا تاريخية، ولا تستطيع أن تبلور أو تنشئ ثقافة ذاتية أصيلة. فتنمية أفق الاختلاف الثقافي، هو شرط الأصالة والمعاصرة معاً. فلا أصالة إلا بجوهر الاختلاف الثقافي، كما أن المعاصرة لا تتحقق في السياق التاريخي والاجتماعي، إلا بالتحرر من وهم المطابقة والتماهي بالآخر فكراً وسلوكاً.
فالتعصب لا يصنع أصالة، بل يصنع واقعاً ثقافياً تمور فيه التناقضات بكل أشكالها وأطيافها، وتقوض النسق أو الأنساق الثقافية المحملة بالمضامين الحضارية الأصيلة، كما أن الحيرة والضياع والغبش في الرؤية، لا يصنعان معاصرة بل يفضيان إلى المزيد من العزلة عن الآخر أو الذوبان فيه. ويبقى أفق الاختلاف الثقافي، هو الذي يعمق الرؤى الحضارية الذاتية، ويؤسس لقيم الحوار مع الآخر والتفاعل معه.
ونحن نرى أن تطور المشهد الثقافي في بلادنا، مرهون إلى حد كبير، إلى قدرة المثقف والأديب والشاعر والقاص، على إجتراح تجربته الخاصة في هذه الحقول، متجاوزين في سبيل ذلك العديد من العوائق والمشكلات التي تحول دون الانطلاقة الثقافية والأدبية المطلوبة.
وفي سياق العمل على ضرورة تطوير واقعنا الثقافي والأدبي، ينبغي لنا التأكيد على ضرورة النقاط التالية:
1- ضرورة تدشين الأرضية الصالحة لبلورة أفق المغايرة الثقافية والاختلاف الفكري، لأنه أحد العوامل الضرورية لتطوير واقع الثقافة الوطني، واستجابتها الفعلية لتحديات الراهن الحضاري والثقافي.
2- تطوير المنظور النقدي والحواري في فضاء الثقافة الوطنية المعاصرة، لأن الاختلافات الثقافية لا تتحول إلى مصدر ثروة حقيقية للإنسان والثقافة والوطن، إلا بوعي نقدي يشتت التافه من الأمور، ويثري المضامين الإنسانية والحضارية في الثقافات.
وهذا بطبيعة الحال، لا يتأتى إلا بعقلية حوارية تبحث عن المشترك فتثريه وتنضجه، دون أن تتغافل عن نقاط الافتراق والاختلاف لمناقشتها ومساءلتها، لا لإنهائها من الوجود والحياة الثقافية والمعرفية، وإنما للوصول إلى صيغة عملية لإدارة نقاط الاختلاف والمغايرة.
فالحوار ليس هدفه النهائي القضاء على نقاط الاختلاف، بل هو وسيلة حضارية لإدارته بعقلية متقدمة. كما أن الحوار هو الوسيلة الفعالة التي تمنع إصدار أحكام قيّمة على الظواهر الثقافية ذات الشروط العامة والتاريخية.
وبهذا تكون العلاقات بين مكونات الثقافة الوطنية، ذات أسس حوارية وتفاعلية وتواصلية، فتطرد عوامل الحقد والضغينة، وأسباب الاحتراف الداخلي.
فالاختلاف الثقافي والمعرفي في حدوده الطبيعية، يثري علاقة التواصل والتفاعل الإنساني، كما أن التنابذ والإقصاء والانغلاق قطيعة مع الإنسان الآخر. فالاختلاف حوار وتواصل وتفاعل، والقطيعة والنفي طغيان واستئثار ونفي لقيم التواصل الإنساني.
لهذا نستطيع القول، بأن صيانة هذا الحق في فضائنا الوطني، وتوفير كل فرص ممارسته وتنفيذه، هو المجال الخصب لعملية الإبداع في المجالات الإنسانية المختلفة.
فالروافد الثقافية الوطنية، ومن خلال أفق الاختلاف والحوار، تؤسس لثقافة جديدة قوامها التسامح واحترام الآخرين بصرف النظر عن منابتهم التاريخية وقناعاتهم الفكرية، وتنبذ خيار القهر والاستغلال والقسوة.. فتتدعم من جراء ذلك إمكانيات السلم المجتمعي، وتتوطد أركان العيش المشترك، وتتجذر القواسم والجوامع المشتركة. والقبول بالتعددية الثقافية، والتنوع الاجتماعي لا يعني غياب المعايير الضابطة، وإنما يعني أن حركة التنوع والتعددية تتحرك وتمارس حريتها وخصائصها ودورها في إطار حقوق الإنسان والوحدة.. فالتعددية لا تشرع إلى التقسيم والتفتيت، كما أن التنوع لا يقود إلى تجاوز حقوق الآخرين.. فالحركة في اتجاهاتها المتعددة مضبوطة بضوابط الحقوق والوحدة.. وهي معايير عليا، تلتقي عندها كل التنوعات والتعدديات، كما أنها معايير لا تلغي حرية الخصوصيات بل تسمح لها بممارسة حريتها واختلافها وتميزها، لكنها الممارسة التي لا تهدم النظام العام ولا تدمر وحدة المجتمع..
ومستقبلنا كمجتمع ووطن واحد، يقضي منا جميعا احترام مجموع الروافد التي تؤثر في مسيرتنا الاجتماعية والثقافية وتساهم في صياغة العقلية والسلوك الخاص والعام.. لذلك هناك صلة عميقة بين مفهوم الاختلاف والحوار.. بمعنى أن الاختلاف بدوائره المتعددة في الإطار الوطني، ينبغي أن يقودنا إلى الحوار والتفاهم وذلك لأنه وسيلتنا الحضارية لتنظيم اختلافاتنا وضبطها، والمعرفة العميقة بالآخر، وتنمية المشتركات والجوامع. كما أن الحوار ليس لاهوتيا أو مذهبيا أو قوميا أو عرقيا، وإنما هو حوار يستهدف بلورة الأرضية المشتركة، وتهيئة المناخ والظروف الموضوعية والذاتية التي تساهم في تأكيد خيار السلم المجتمعي ومقتضيات العيش الواحد.
فالحوار ليس إلغاءاً للاختلافات أو للجدل الأيدلوجي والسجالات المذهبية، وإنما من أجل الوصول إلى أفضل صيغة ممكنة لإدارة اختلافاتنا وضبط انقساماتنا والمحافظة على مكاسبنا ومنجزاتنا..
فـ"التعددية ليست مجرد غاية في حد ذاتها، فالإعتراف بالاختلافات ما هو إلا شرط لبدء الحوار، وبالتالي لبناء اتحاد أوسع نطاقا بين أناس مختلفين. وعلى الرغم من المصاعب فإننا نواجه مصيرا محتوما، فلا بد من إيجاد سبل للتوفيق بين تعددية جديدة ومواطنة مشتركة. وقد لا يكون الهدف مجرد مجتمع متعدد الثقافات، بل دولة تتألف من ثقافات متعددة، دولة يمكن أن تعترف بالتعددية دون أن تفقد وحدتها، وربما كان من الضروري إعادة إقرار الأنماط المحلية من الحكم الذاتي التي قضت عليها الدول القومية من قبل مع تقديم بعض الضمانات. إلا أن الهويات القومية الواضحة تعد ضرورية أيضا " (1).
وإن الحفر عميقا في واقع مجتمعنا، يجعلنا نعتقد أن المشروع الوطني الحقيقي والقادر على تحشيد القوة وتجميع الطاقات، هو الذي يتعامل بحوارية حضارية مع كل القوى والأطياف، ويتجاوز كل العقد العميقة الراسخة في واقعنا المجتمعي بالمزيد من الانفتاح والتواصل والحوار.
وهنا ينبغي أن نميز بين مفهوم النقد ومفهوم الولاء... فليس كل من يمارس عملية النقد وتقويم الاعوجاج، يتهم بعدم الولاء والانتماء.. وإنما على العكس من ذلك، حيث أن النقد للشأن العام، مؤشر مهم من مؤشرات الولاء السليم للوطن والمجتمع. لأنه نقد يستهدف إزالة عقبات التقدم وتذليل كل ما يحول دون استمرار انطلاقة المجتمع.
والتقدم في أي مجتمع مرهون إلى حد بعيد، عن مدى انسجام النظام الاجتماعي والسياسي مع حالة النقد ومتطلباتها ومقتضياتها المختلفة.. فالمجتمع الذي يسمح نظامه بالنقد ويوفر كل مستلزمات هذه المقولة على المستويين الذاتي والموضوعي، فإنه مجتمع قادر على التقدم وتجاوز كل عقبات الطريق. أما المجتمع الذي يرذل النقد، ويتعامل معه بوصفه فعلا مناقضا للولاء والانتماء، فإنه مجتمع يزداد تخلفا وتراجعا وبعدا عن مضمار التقدم والتطور. فالنقد يستهدف تصحيح الخلل، وحينما تتلاشى قيمة النقد والمراقبة والمحاسبة، تستفحل الانحرافات وتتراكم أشكال الخلل دون توفر الإرادة لإزالتها وتطهير الواقع المجتمعي منها.
فالنقد قوة اجتماعية، وعلينا أن نوفر الظروف المواتية للتعبير عنه بشكل جماعي، عن طريق العمل الإعلامي والنقابي والاجتماعي والسياسي. فالديمقراطية بمؤسساتها وأنظمتها، هي القادرة على خلق قوى اجتماعية فاعلة باتجاه تقويم الاعوجاج ومعالجة الخلل في المسيرة بوسائل سلمية ورقابية. والنقد هو الوليد الشرعي للديمقراطية. فلا نقد حقيقي بدون حرية، ولا حرية فاعلة ومستديمة بدون نقد ومحاسبة.. لهذا كله من الضروري أن لا نتعامل مع النقد وكأنه حالة خاصة بفئة من المواطنين، أو نساويه والجريمة.. فهو فعل وطني عميق يستهدف خلق المزيد من فرص النجاح وأسباب القوة في المجتمع.
وإن تأمين التنوع الثقافي والاجتماعي بوسائل قانونية وسياسية، يساهم في توسيع دائرة الاختيارات ومضاعفة الحراك الاجتماعي والتفاعل الفكري المفضي إلي المزيد من الفعالية والدينامية على المستوى المجتمعي.
وفي إطار تهئية الأرضية الاجتماعية والثقافية والسياسية للتعامل مع الاختلاف بعقلية حوارية وحضارية من الضروري التأكيد على النقاط التالية:
1- إن الاختلاف الفكري والثقافي، لا يعني الانشقاق والخروج على مقتضيات الجماعة، وذلك لأنه جبلة إنسانية وناموس اجتماعي، ولا يمكن أن نطلب في الإطار الإنساني أن تتطابق وجهات نظرنا وقراءتنا للأمور والأحداث مع الجميع.. وإنما تتمايز وجهات نظرنا وتختلف قراءتنا للظواهر والتطورات.. ولكن هذا التمايز والاختلاف ليس إنشقاقا عن الآخرين أو خلافا ونزاعا معهم، وإنما هو حالة إنسانية طبيعية.. وواجبنا ليس ترذيل الاختلاف، وإنما العمل على صياغة الأطر والمؤسسات المناسبة لإدارته بما ينسجم وحدوده الطبيعية ودوره في المعرفة وتوسيع خيارات النهوض والتقدم في المجتمع.. وهذا بطبيعة الحال يتطلب ثقافة مجتمعية جديدة، تستوعب الآراء المتعددة وتبحث عن الحقيقة وتؤمن بالحوار والتواصل وتنبذ العنف والتطرف وتتطلع إلى إرساء قواعد الشراكة والسلم الأهلي.
2- إن الحوار والتواصل مع الآخرين، لا يستهدف تبديل المواقع أو إفحام الآخر، وإنما تنمية المشتركات وتوسيع دائرة الفهم والمعرفة المتبادلة. ويخطأ من يتصور أن وظيفة الحوار، هو الجدل أو المساجلات الأيدلوجية، وذلك لأن السجالات الأيدلوجية تزيد من التباعد، ولا توفر المعرفة الحقيقية بالآخر، وتدفعنا إلى تبني لغة التشكيك والاتهامات.. إن وظيفة الحوار تتجلى في صناعة المعرفة وتطويرها، وبلورة القواسم المشتركة وتفعيلها، والوصول إلى برامج عمل مشتركة تستهدف تطوير المجتمع وتعزيز وحدته الداخلية.
3ـ إن بناء المواطنة وصياغة العلاقات الداخلية للمجتمع الواحد على أسس المساواة والعدالة، هو الذي يساهم بشكل كبير في ضبط الاختلافات وفي جعل الحوار والتواصل متجها صوب القضايا الحيوية والنوعية.
وإن بناء المواطنة، لا يتم على قاعدة إقصاء وتهميش بعض الفئات والشرائح على قاعدة الاختلاف، وإنما بناء المواطنة يتم على قاعدة التنوع الثقافي المتوفر في المجتمع، وذلك لأن المواطنة ليست هوية جامدة، وإنما هي حيوية ومفتوحة على جميع الروافد، وتستفيد من كل الاجتهادات والآراء وذلك لإثراء مضمونها وتوسيع قاعدتها الاجتماعية والإنسانية.
وإن أي إقصاء لأي طرف بدعوى الاختلاف الذي يقود إلى التمييز والتهميش، هو يؤسس لحروب اجتماعية مفتوحة على كل الاحتمالات. لذلك نجد أن الحروب الداخلية هي أكثر شراسة وهمجية واستمرارا من تلك الحروب التي تتم بين طرف داخلي وطرف خارجي.
وفي إطار الاختلافات الداخلية " يكون إدخال العسكر في الموضوع هو الاستجابة الخاطئة، فمن الأفضل تنمية الأرض اليوم بدلا من استخدام الجنود غدا، ومن الأفضل أن نتخذ إجراءات تنموية وقائية عند المنبع بدلا من العمليات العسكرية عند المصب، ومن الأفضل أن نعدل النماذج الخاطئة والمنحرفة للتنمية، بحيث تشبع طموحات الشعب وتطلعاته، هذا هو جوهر ثقافة السلام " (2).
فتكاليف بناء المواطنة على أسس أكثر مساواة وعدالة على المستويين الاجتماعي والسياسي، اقل بكثير من التكاليف الباهظة المترتبة على عمليات الإقصاء والتهميش والدخول في نفق الصراعات الداخلية.. إن الاستقرار السياسي يتطلب المزيد من العدالة في السياسة والمجتمع، وبدون ذلك سيبقى الإستقرار شكليا، والتناقضات تزداد حدة وتعقيدا وستتعطل من جراء ذلك مشروعات التنمية، وسيدخل الجميع في نفق غياب الثقة، الذي يحول كل شيء إلى مصدر للاختلاف والنزاع.
فالأمن لا يجلب بالسلاح والقمع، وإنما بتنمية الإنسان وتوفير ضروراته وصون كرامته ومنحه الحرية اللازمة للمشاركة في البناء والعمران. وإن تأخر النخبة السياسية في استيعاب أهمية التعامل مع التنوعات التقليدية والحديثة والاختلاف الثقافي والفكري بعقلية تواصلية ـ حوارية ـ حضارية، يزيد من تفاقم الاحتقانات والأزمات، ويجعل مستقبلنا جميعا قلقا وبعيدا عن تطلعاتنا وطموحاتنا.
إن التنوع الاجتماعي المتوفر في فضائنا، والاختلاف الثقافي الذي يدفعنا إلى ضرورة إرساء تقاليد للتواصل والحوار. كل هذا بحاجة إلى ثقافة الاعتراف بالآخر وجودا وفكرا. وذلك لأن الكثير من الاضطرابات الاجتماعية والنزاعات السياسية، هي من جراء غياب حقيقة الاعتراف بالآخر. فالآخر المختلف له حق التعبير عن ذاته وأفكاره، وله كامل الحق للدفاع عنها بالوسائل المشروعة، كما إننا لا نمتلك إزاء هذا التنوع والاختلاف إلا احترام الآخر بكل ما تحمله كلمة الاحترام من مداليل ومضامين. وإن محاولات قسر الآخرين على رأي وفكر واحد لا تفضي إلا إلى المزيد من التدهور على الصعد كافة.
وذلك لأن ممارسة القوة في فرض الآراء، تقابلها ممانعة طبيعية وسياسية، مما يؤسس لعملية المواجهة والتحدي. واحترام الرأي الآخر، لا يعني بالضرورة الاقتناع به، كما أن عدم الاقتناع به لا يؤدي بأي حال من الأحوال إلى ممارسة العسف تجاهه ومنعه من البروز. فاحترام الآخر وجودا ورأيا من صميم ثقافتنا، التي تؤكد على نفي الإكراه وتقف بحزم ضد كل محاولات عسكرة الآراء أو إخضاع الآخرين لآرائنا بالقهر والقوة.. فالدين الإسلامي، ينفي الإكراه بكل صنوفه وأشكاله، ويحث على حرية الرأي. قال تعالى [لاإكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم] (3)، وتبقى الكلمة الطيبة هي سيدة الوسائل في الدعوة إلى الله عز وجل ومواجهة الانحرافات وخلق الوعي والمعرفة، مما يؤدي إلى خلق الظروف الذاتية والموضوعية المفضية إلى شيوع حالة الاستقرار والإيمان والطمأنينة قال تعالى [ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء * تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون* ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض مالها من قرار] (4).
وعلى هذا فإنه لا يجوز بأي شكل من الأشكال، استخدام القهر والقوة تجاه الآراء والأفكار. وتبقى لغة الحوار والجدل بالتي هي أحسن، هي طريقنا وخيارنا، ولا سبيل أمامنا إلا احترام الآراء والأفكار، ذلك الاحترام الذي يعكس بعمق إيماننا واعترافنا المطلق بالآخر وجودا ورأيا.. قال تعالى [ أدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين ] (5).
والاعتراف بالآخر وجودا ورأيا يعني:
نسبية الحقيقة وأنه لا يوجد طرف من الأطراف يمتلك الحقيقة المطلقة.. وإنما عبر الجدل والحوار والتواصل، تتضح معالم الحقيقة. لذلك فإن الاعتراف بالآخر يعني فيما يعني احتمال وجود جزء من الحقيقة التي نبحث عنها عند هذا الآخر.
إن الدين الإسلامي جاء من أجل الإنسان وإسعاده في هذه الحياة. ولا يمكن إنجاز مفهوم السعادة بالقهر والإكراه.. وتبقى وسيلة الحوار والإقناع هي سبيلنا إلى ذلك.. والاعتراف بالآخر هو جزء أصيل من عملية إنجاز الغايات الدينية في عالم الإنسان.
إن الاعتراف بالآخر وجودا ورأيا، هو قوام الأمن الاجتماعي والاستقرار السياسي. حيث لا يمكن أن تنجز هذه المفاهيم على الصعيد الواقعي بدون الاعتراف بالآخرين ووجود المؤسسات والأطر القانونية التي تسمح لكل الآراء بالتعبير عن ذاتها بعيدا عن كل أشكال الإكراه والإلغاء.. وعلى كل حال فإن الاعتراف بالآخر يبدأ بالذات، حيث الإيمان العميق بذلك، وأن هذا الاعتراف ليس تكتيكا أو من أجل مصلحة مرحلية، وإنما هو رؤية دينية وحضارية عميقة، تتجاوز كل المنافع المرحلية، وتصل إلى عمق الثقافة والتكوين النفسي والفكري للإنسان. وتنطلق من هذا الإيمان الذاتي، لتتبلور وتتجلى في مجالات الإنسان المختلفة.
وخلاصة الأمر: أن المشهد الثقافي الوطني، يحتضن العديد من التيارات والأطياف والتوجهات، ولا سبيل أمامنا جميعا، إذا أردنا الاستقرار والتطور إلا الدخول في مشروع حواري وتواصلي بين كل هذه التوجهات، يستهدف هذا المشروع، إرساء تقاليد الحوار والتواصل في فضائنا الاجتماعي والثقافي، واستيعاب وامتصاص عناصر التمايز والاختلاف، والعمل معا من أجل بناء فضاء اجتماعي وسياسي وثقافي حر، يحترم مختلف الآراء والأفكار، ويصون الحقوق والكرامات، ويمارس الانفتاح على كل الاجتهادات والثقافات.
اضف تعليق