ان القضاء المستقل وحكم القانون العادل من ركائز واسس ومعالم الدولة الحضارية الحضارية الحديثة، واقامة هذه الدولة تتم وفق خطوات تراكمية قد تستغرق بعض الوقت، وتمسك المواطنين بمختلف درجات مسؤولياتهم في البلد بالقانون واستقلالية القضاء تعزز من هذه المسيرة نحو الدولة الحضارية الحديثة...

حكمت محكمة بداءة الكرخ بابطال قرار مجلس امناء هيئة الاعلام والاتصالات الرقم ٢٣ المتخذ في ٦ تموز عام ٢٠٢٠ وابطال قرار مجلس الوزراء بالمصادقة عليه بخصوص تجديد وتمديد عقد التراخيص لشركات الهاتف النقال العاملة في العراق.

وجاء الحكم بناء على دعوى اقامها النائب الاسلامي المستقل محمد شياع السوداني ضد رئيس مجلس الوزراء اضافة الى وظيفته، وضد رئيس الجهاز التنفيذي في الهيئة اضافة الى وظيفته.

وهذه هي ليست المرة الاولى التي يتخذ فيها القضاء العراقي قرارا من هذا النوع. فقد سبق للقضاء ان اصدر حكما بابطال امر ديواني اتخذه رئيس الوزراء الاسبق حيدر العبادي باقالة اعضاء مجلس امناء شبكة الاعلام العراقي بناء على دعوى اقامها ضده عضو المجلس فضل فرج الله.

وتبين الحادثتان ان القضاء العراقي مازال يتمتع بدرجة عالية من القوة والاستقلالية والحصانة ضد تأثير السلطة التنفيذية ممثلة باعلى شخص فيها وهو رئيس الوزراء، خاصة وان تمديد وتجديد عقد الترخيصات كان منذ اللحظة الاولى مشوبا بشبهة الفساد لاسباب كثيرة من اوضحها السرعة غير الطبيعية لمصادقة حكومة الكاظمي عليه بعد يوم واحد فقط من تاريخ الموافقة عليه من قبل مجلس امناء الهيئة الامر الذي يكفي للايحاء بان الحكومة ممثلة بشخص رئيسها مارست ضغطا من اجل الاسراع بتمرير العقد. وقد علمتنا التجربة العملية ان الامور لا تجري بهذه السرعة في الدولة العراقية المعروفة بروتينها البطيء جدا واجراءاتها البيروقراطية المعقدة والثقيلة.

ولا يمكن نكران ان هذه الاستقلالية التي يتمتع بها القضاء العراقي، مهما كانت درجتها، هي من المكاسب التي حققها العراق بعد سقوط النظام البعثي المتخلف، والا فمن الذي كان يجرؤ على اقامة دعوى قضائية ضد صدام حسين اضافة الى وظيفته طيلة ٣٥ سنة؟

ولتثبيت هذا المكسب فقد نص الدستور العراقي في المادة (87) على ان "السلطة القضائية مستقلة" فيما قالت المادة (88) ان "القضاة مستقلون، لا سلطان عليهم في قضائهم لغير القانون، ولا يجوز لاية سلطة التدخل في القضاء او في شؤون العدالة".

وهذه هي احدى الوسائل المتاحة بيد الاصلاح والتغيير والتي يمكن استخدامها في مكافحة الفساد من قبل اي مواطن عراقي فضلا عن اعضاء مجلس النواب. ولو تصرف بقية النواب بمثل ما تصرف به النائب محمد شياع السوداني ازاء اية قضية فساد لامكن محاصرة الفساد وتجفيف منابعه والقضاء عليه باكثر مما تحققه الاساليب الصارخة والتصريحات الرنانة التي تخلق ضجيجا عاليا دون ان تحقق نتائج ملموسة.

ان القضاء المستقل وحكم القانون العادل من ركائز واسس ومعالم الدولة الحضارية الحضارية الحديثة. واقامة هذه الدولة تتم وفق خطوات تراكمية قد تستغرق بعض الوقت. وتمسك المواطنين بمختلف درجات مسؤولياتهم في البلد بالقانون واستقلالية القضاء تعزز من هذه المسيرة نحو الدولة الحضارية الحديثة. وعلى النقيض من ذلك، فان الانتقاص من القضاء والخروج على القانون ومخالفته تعيق اقامة الدولة الحضارية الحديثة وتجر المجتمع والدولة والمواطن الى منزلق سحيق في التخلف والفساد.

ان المجتمعات البشرية توصلت منذ زمن قديم يمتد الى عصر حمورابي الذي حكم بابل بين عامي 1792 - 1750 ق م والى ما قبل ذلك الى ضرورة حكم القانون واستقلال القضاء بل الفصل بين السلطات من اجل تحقيق الاستقرار في المجتمعات والدول وقامة العدل فيها. وتبرز اهمية هذه الفكرة الجوهرية في مرحلة الانتقال الى الدولة الحضارية الحديثة حيث لا يمكن تحقيق هذا الهدف دون ترسيخ مبدأ حكم القانون واستقلال القضاء.

..........................................................................................................
* الآراء الواردة في المقال قد لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية.

اضف تعليق