لقد اتسع العالم بالقدر الذي تعجز عن ادارته قوة دولية واحدة. على الولايات المتحدة مراجعة سياساتها وتصحيح بوصلة تفكيرها، وتؤمن بواقعية، أن العالم غدت ملامحه تنشد التغير، ولابد من مشاركة الآخرين في صنع القرار العالمي وإدارة العالم، إذ ان السلم والأمن الدوليين، والذي هو أساس...
تباشر الجمعية العامة، بقيادة رئيسها فولكان بوزكير (VOLKAN BOZKIR) من تركيا، تنفيذ أعمالها بوسائل جديدة لضمان تواصل الأعمال والتخفيف من مخاطر جائحة كوفيد –19 (COVID-19 PANDEMIC).
وتجتمع الدول الأعضاء في قاعة الجمعية العامة في نيويورك في شهر أيلول/ سبتمبر من كل عام لحضور الدورة السنوية للجمعية العامة ومناقشاتها العامة. ولكن في الدورة الخامسة والسبعين بسبب الأزمة الصحية العالمية الراهنة، تم الركون الى تطبيق وسيلة الدبلوماسية الرقمية، حيث تكون الدورة الخامسة والسبعون للجمعية العامة فرصة حاسمة لجميع الأعضاء للالتقاء ورسم مسار سليم للمستقبل بشأن مختلف القضايا العالمية التي تمثل تحديات عالمية كالعنصرية والتعصب وغياب المساواة وتغير المناخ والفقر والجوع والصراع المسلح، وتتطلب هذه التحديات اتخاذ إجراءات عالمية [1].
وكانت افتتاح الدورة الخامسة والسبعون للجمعية العامة، بدأت في 15 أيلول/سبتمبر 2020، والمناقشات العامة للدورة في 22 أيلول/سبتمبر 2020، الذي وافق ذكرى تأسيس منظمة الأمم المتحدة، وهذه الدورة مختلفة عن نظيراتها السابقة. وفي سابقة أولى في تأريخها لم تعقد في مقرها مباشرة في نيويورك كما دأبت العادة أو في مقر آخر تابع لها، بل عقدت اجتماعات برلمانها العالمي عبر منصة افتراضية، بسبب تفشي كوفيد- 19.
ولم يكن هذا المتغيّر الجديد فقط في هذا الاجتماع، إنما هنالك شيء آخر ايضاً، إذ شهد تراشقاً بالاتهامات الصريحة والضمنية بين عدد من أعضاءها، او بين أبرزهم قوة وتأثير ونفوذ فيها، خرج بعضها عن نطاق قواعد الدبلوماسية المعهودة في اللقاءات أو المباحثات أو الاجتماعات الدولية، إذ قال الرئيس الأمريكي دونالد ترامب (لابد أن تعاقب الدول التي أطلقت هذا الطاعون الذي يغزو عالمنا، الصين،.... الصين ومنظمة الصحة العالمية التي تتحكم بها الصين بشكل كامل، اعلنتا زوراً أن ليس هناك ما يثبت أن انتقال الفايروس من شخص لآخر، واعلنتا أن الأشخاص دون اعراض لا ينقلون العدوى.... على الأمم المتحدة أن تعاقب الصين)، وقالت ممثلة الولايات المتحدة الأمريكية كيلي كرافت (إن بلادها ستفعل ما تراه صائباُ، ولو لم يحظ ذلك بشعبية).
أما ممثل الصين في الأمم المتحدة جانك جو فقد اتهم الولايات المتحدة بالإخلال بجهود المجتمع الدولي بمواجهة الجائحة وعبّر عن رفض بلاده للاتهامات الأمريكية وذكر (أن الصين تعارض بحزم وترفض الاتهامات التي لا أساس لها من جانب الولايات المتحدة وبعض السياسيين الأمريكيين وهيئات تابعة للأمم المتحدة)، وأكد انها تسيء استخدام منصة الأمم المتحدة ومجلس الأمن، و(أن الولايات المتحدة نشرت الفايروس السياسي والمعلومات المضللة وخلقت الصدام والانقسام).
في حين جاء في خطاب وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف (إن بعض الدول تحاول استغلال الوضع الحالي لمصالحها الخاصة وتصفية الحسابات مع المنافسين).
وهذا المشهد يعكس مدى الانقسام والانكسار الحاد في العلاقات الدولية خاصة بين الدول الكبرى، وضعف النظام الدولي. ثمة شيء من التباغض والتباعد، ثمة شيء من تهشم أواصر التعاون إلى حد بعيد ينذر بتصاعد احتمالات التنافس والصراع بين هذه الوحدات السياسية الفاعلة نحو مراحل أعلى، مما قد يصعب احتواءه أو العودة في العلاقات الدولية إلى ما كانت عليه قبل تفشي كوفيد- 19.
إن هكذا وضع يذكرنا بشكل كبير ما عاشته الساحة الدولية قبيل الحربين العالميتين الأولى والثانية، وإن بدا الآن أكثر علانية من ذي قبل بفعل سرعة التفاعلات ودقة المعلومات ووفرة وسائل الاتصال والاعلام الحديثة. إنه وضع أقرب احتمالاً لمواجهات عسكرية مباشرة وحروب بالوكالة، ربما تكون غير ما كانت عليه فيما سبقها، لكثافة الأسلحة وحجومها المتوافرة لهذه القوى، وتطور انواعها في بعديها التقليدي وفوق التقليدي.
ولعل ما يدور الآن من صراعات فاق حد الحرب الباردة التي دارت رحاها بين قطبي السياسة الدولية أبان حقبة الزعامة الثنائية للعالم، لكل من الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي السابق، بالرغم من وصول حدة الصراع بين العملاقين وقتئذ حافة الحرب، ولعب كل منهما مع الآخر سياسة حافة الهاوية، بلغت أوجها في الأزمة الكوبية مطلع ستينيات القرن المنصرم ( أزمة خليج الخنازير في العام 1962، أبان حكم كل من خروتشوف للاتحاد السوفيتي السابق، وجون كينيدي في الولايات المتحدة الأمريكية )، وإن لم يشهد الصراع الدائر الآن بين الولايات المتحدة والصين شأو نظيره، بين الاتحاد السوفيتي السابق الولايات المتحدة، إلا أنه قد يبدو اكثر في خطورته، إذ يتأتى من انه يستعر بقوة وسرعة عالية، في ظل شلل وفشل واسع للمنظمة الدولية الأم في احتواء الأزمات الدولية أو الحد منها، والتي تزايدت حجماً ونوعاً.
ولعلنا نذهب مع رأي كثير من المختصين والكتّاب، منهم الدبلوماسي الأممي الجزائري طاهر بومدره حين وصف المنظمة الدولية بقوله (إنها باتت منظمة الولايات المتحدة) ! معبراً عن اختزال دورها وتكريس نفوذها لصالح الولايات المتحدة الأمريكية. كما تتمظهر خطورة الصراع في الإدارة الأمريكية الحالية، متمثلة بالرئيس دونالد ترامب، الذي سخر ويسخر لأجل طموحاته في رئاسة أمريكية ثانية، وخدمة لقوى مؤثرة داخلياً وخارجياً، أسهمت في إيصاله للرئاسة، لإن يخضع مصالح الولايات المتحدة للخطر، في الإيغال في مواجهات مع قوى دولية كبرى كالصين والاتحاد الروسي وقوى اقليمية فاعلة كالجمهورية الإسلامية الإيرانية.
ولا شك في أن جميع ما هو قادم من ظروف ومتغيرات لن تعيد العالم إلى ما كان عليه قبل ظهور وانتشار كوفيد 19، إنه عالم يتغير ويتأثر بسرعة بفعل عوامل عديدة. ربما يكون اكثر خطورة بما يهدد أمنه وتقدمه، إذا ما بقيت الولايات المتحدة الأمريكية تنتهج ذات السياسات الراهنة، القائمة على أن أمريكا أولاً، كما قالها الرئيس الأمريكي ترامب مراراً، او اننا نستخدم القوة دون مبرر لأننا امريكا كما صرحت وزيرة الخارجية الأمريكية في عهد الرئيس بيل كلنتون مادلين أولبرايت !، التي ترمز وتشير بمجملها بكل وضوح، إلى إلغاء الآخر، أو تسخيره لخدمة مصالحها، والإذعان لرغباتها. إنها سياسة تعكس حالة انفصام عن الواقع، في نكران تغير الظروف العالمية، وتنكر سنن التأريخ وحركته في ظهور وأفول دول وحضارات.
لقد اتسع العالم بالقدر الذي تعجز عن ادارته قوة دولية واحدة. على الولايات المتحدة مراجعة سياساتها وتصحيح بوصلة تفكيرها، وتؤمن بواقعية، أن العالم غدت ملامحه تنشد التغير، ولابد من مشاركة الآخرين في صنع القرار العالمي وإدارة العالم، إذ ان السلم والأمن الدوليين، والذي هو أساس ما جاءت لأجله منظمة الأمم المتحدة لن يتحقق إلاّ وفق مبدأ المشاركة والتعاون بين جميع اعضاءه.
إنّ التحدياتِ التي تواجه العالم هي تحديات متشابكة لا يمكن التصدي لها إلا من خلال بث الحياة من جديد في تعدّدية الأطراف. ولا تزال أصداء جائحة مرض فيروس كورونا (كوفيد-19) تتردد في جميع أنحاء العالم. لقد أصبحت الجائحة في غضون بضعة أسابيع من بدئها أضخم تحدٍ عالمي في تاريخ الأمم المتحدة. وهي لم تودِ بالأرواح وتؤد إلى الاعتلال الشديد فحسب، بل وتسببت أيضاً في حدوث ركود اقتصادي عالمي وفي تنامي الفقر وزادت من القلق والمخاوف. كما ألقت بحمل هائل على المجتمعات واقتصاداتها ونظُمها الصحية.
ورغم أن الجائحة طالت الجميع، فلا شك أن الأشخاص الذين يعيشون في أوضاع هشة والبلدان الأشد ضعفاً كانوا هم الأكثر تضرراً منها. ولن يتسنى إنهاء الجائحة والتصدي بفعالية لعواقبها إلا من خلال العمل المشترك المتعدد الأطراف. وتعدّدية الأطراف ليست خياراً بل هي ضرورة محتمة في ظل مساعي البناء على نحو أفضل من أجل إيجاد عالم أكثر إنصافا واستدامة وأقدر على الصمود في مواجهة الأزمات. ولا بد أن تكون الأمم المتحدة محورا مركزيا في هذه الجهود [2].
وعلى أساس ذلك، لابد من إيجاد نظام دولي عادل متوازن، يمثل الجميع كل حسب حجمه وقوته وتأثيره ونشاطه، مع الحفاظ على المبادئ الأساس للأمم المتحدة في المساواة وعدم استخدام القوة او التهديد باستخدامها، وعدم التدخل بالشؤون الداخلية للدول، وحق تقرير المصير للدول والشعوب التي تخضع للسيطرة الاستعمارية، فيما تراه يتماشى مع رغباتها في تحقيق وحدتها ومصالحها بكل حرية واستقلال وسيادة.
ولعل هذا السبيل الرئيس لتحقيق الأمن والسلام والازدهار الدولي، هو مكافحة الحركات الإرهابية والأفكار المتطرفة وتفعيل خطط التنمية المستدامة. ليس فيما ندعو إليه من رومانسية حالمة أو طوباوية خيالية، إنما هي مناشدة عقلانية يفرضها الواقع، لأجل مصلحة العالم أجمع. العالم اليوم بات منظومة مترابطة متفاعلة في شتى أبعادها، ليس بوسعه أن يعيش آمناً ومستقراً دائماً، فإذا ما تعرضت أي رقعة جغرافية منه وشعبها لأوضاع غير مستقرة وغير آمنة.
وما تراه الولايات المتحدة والغرب عموماً من أنها اولاً، وأن أمنها بمعزل عن أمن سواها لهو وهم كبير. لقد أضحى عالمنا كمنظومة محرك في تكامل اجزاءه وتفاعلها، لابد من الانسجام لتحقيق الهدف في خلق حركة تعاونية وتقدم، فأي اختلال في جزء منه نراه منعكساً على اداءه ونشاطه، فيفقد الحركة او يصاب بالشلل، ليعقبه تآكله وتهرئه، فزواله.
ويمكننا في هذا المجال، تقديم مقترحين، أحدهما الى الولايات المتحدة الأمريكية، والأخر الى منظمة الأمم المتحدة، وكما يأتي:
- المقترح الأول: على صناع السياسة الأمريكية أن يعوا حالة الانقسام الحاد الذي تعيشه بلادهم سياسياً، وتراجع اداءها اقتصادياً، وتآكل قوتها الناعمة جراء ذلك، وصراعها الحزبي حتى داخل نسيج الحزب الواحد. إنه سر أزمتها، التي إن بقيت وتفاقمت ستكون السبب الرئيس في تراجع الولايات المتحدة، وتأثيره سلبياً في حالة الإتحاد، كما ان تصديرها لأزمات تعاني منها داخلياً الى خارجها باتت واضحة عالمياً، ولن يجدي نفعاً لها ذلك المسعى. ليس لها إلاّ القبول بنظام دولي جديد، نظام تشاركي في إدارة العالم، واصلاح واقعها من الداخل.
- المقترح الثاني: على منظمة الأمم المتحدة تحقيق خطط إصلاحها، فقد اصبح أمراً ملحاً، يجب الإسراع فيه، وإذا ما تعذر في القريب المنظور، من إجراء إصلاحات شاملة بدءً بميثاقها، فأقلها إصلاحات جزئية، سريعة عاجلة، كجعل أي قرار تستخدم فيه سلطة النقض للدول المنتصرة بالحرب العالمية الثانية، أن يعرض على الجمعية العامة للتصويت عليه، عله يسهم في كبح الاستخدام المفرط له، ويحد من استخدامه السيء الذي يسعى حصراً لخدمة مشاريع الدول دائمة العضوية، والتي تضر غالباً بمصالح كثير من الدول النامية وتأتي على حساب حقوقها ومصالحها الوطنية، فضلاً عن الأخذ بآراء كبار المختصين والكتاب، الذين بذلوا جهوداً جليلة في هذا المجال وأبدوا آراءً حصيفة إزاءه.
ويبدو ان هذه التوصية قد لقت صداها في الفقرة (14) من الإعلان الذي صدر بمناسبة الاحتفال بالذكرى السنوية الخامسة والسبعين لإنشاء الأمم المتحدة، حيث جاء فيها: (سوف نرتقي بأداء الأمم المتحدة - عالم اليوم شديد الاختلاف عما كان عليه عندما أُنشئت الأمم المتحدة قبل 75 عاما. فقد تعدّدت بلدانه وكثُر سكانه وازدادت التحديات فيه، وكذلك الحلول. وينبغي أن تواكب أساليب عملنا هذه الأوضاع وأن تتكيّف معها. ونحن نؤيد الإصلاحات الجارية التي يقوم بها الأمين العام. فهي تشكّل منظمةً أكثر مرونة وفعالية وأكثر خضوعا للمساءلة يمكنها أن تحقق أداءً أفضل في الميدان وأن تتكيّف مع التحديات العالمية. ونكرر دعوتنا إلى إجراء إصلاحات في ثلاثة من الأجهزة الرئيسية للأمم المتحدة. ونلتزم ببث زخم جديد في المناقشات المتعلقة بإصلاح مجلس الأمن وبمواصلة العمل على تنشيط الجمعية العامة وتعزيز المجلس الاقتصادي والاجتماعي. كما أن استعراض هيكل بناء السلام يحظى بدعمنا الكامل).
وفيما يخص الدبلوماسية الرقمية والتعاون الرقمي فقد أكدت الفقرة (13) من الإعلان السالف الذكر، على أن الأمم المتحدة سوف تعمل على تحسين التعاون الرقمي خاصة وأن التكنولوجيات الرقمية قد أحدثت تحولاً عميقاً في المجتمع. وهي تتيح فرصاً غير مسبوقة وتطرح تحديات جديدة. ولذلك لا بد أن يستمر على سبيل الأولوية الاهتمام ببلورة رؤية مشتركة لتعاون ومستقبل رقميين يجسّدان الإمكانات الكاملة للاستخدام الحميد للتكنولوجيا وبمعالجة مسألتي الثقة والأمن في الفضاء الرقمي، إذ إن العالم أصبح في الوقت الراهن يعتمد على الأدوات الرقمية أكثر من أي وقت مضى في ضمان القدرة على التواصل وتحقيق الرخاء الاجتماعي والاقتصادي. ويمكن أن تعجّل التكنولوجيات الرقمية بتنفيذ خطة الأمم المتحدة 2030.
اضف تعليق