الطريق للتغير الايجابي ليست سهلا لأن طبيعة وبنية السلطة في العراق واحزابها القائمة على الهويات الفرعية وليست على فكرة المواطنة والولاء للوطن لن تؤمن بالتداول السلمي للسلطة وديمقراطية الانتخابات، وترى في صناديق الاقتراع وسيلتها للاستحواذ على السلطة والانفراد بها، وبالتأكيد ستتشبث القوى القديمة البالية في البقاء...
طالما حذر العقلاء من سياسي العراق والحريصين على مستقبله من الحرب الأهلية، او من عمليات العنف والعنف المتبادل، لأنها بالنتيجة النهائية ستعقد اي حل مرتقب لأزمة الحكم في العراق، كما انها تزيد الخراب بمزيدا من الخراب وتفقد بصيص الأمل في العثور على حل للمشكل السياسي والاقتصادي والاجتماعي، الى جانب ما تؤديه تلك الحروب الى مزيدا من الخراب والدمار في البنية التحتية للبلاد أو ما تبقى منها وتضعف النسيج الاجتماعي العراقي وتهشمه، وقد تعرض المجتمع العراقي ما بعد 2003 الى المزيد من محاولات دفعه صوب الحرب الاهلية الشاملة وتكريس تمترسه الطائفي والاثني على حساب وحدة المجتمع وسلامة تنوعه الديني والمذهبي والعرقي بمكوناته المختلفة.
والتجارب العالمية والعربية في الحروب الاهلية او استخدام العنف والعنف المتبادل على نطاق واسع تؤكد طيلة استمرارها لا يوجد فيها طرف رابح، وبالتالي لا يوجد غير لغة الحوار بديلا عن لغة السلاح لتجنب المزيد من الكوارث الاقتصادية والاجتماعية والانهيارات الكبرى غير المتوقعة.
وبالتأكيد عندما نتحدث عن لغة الحوار بين اطراف النزاع لا يعني هذا العمل على قاعدة” عفى الله عما سلف” أو” تصفير للمشاكل” لأن مظلة الحوار بين اطراف الصراع يفترض ان يكون القانون والقضاء وسيادة الدولة وهي الثوابت التي تجري في ظلها كل التسويات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وان الاستمرار في غياب أجهزة الدولة المسئولة عن إحقاق العدالة وفرض القانون وهيبته على جميع شرائح المجتمع بدون تمييز ستعزز ثقافة التشرذم والانتقام والثأر وتزيد من تغول المجموعات المتناحرة السياسية الحاكمة على النفوذ والموارد والسلطة في ظل زيادة التمترس حول القبيلة والعشيرة والطائفة لحماية مصالحها التي تقف ضد استقرار الدولة وسلطة القانون.
قد يكون خيار الحرب الأهلية او الدفع باتجاهها والتملص من الحساب والقصاص المجتمعي هو خيار المليشيات المسلحة التي يضيق الخناق عليها مع مرور الوقت ومع الدعم المجتمعي والعالمي لخيار الانتفاضة السلمي، وتزايد مطالب المجتمع الدولي في محاربة مجرمي المليشيات الحاكمة قتلة المتظاهرين السلميين، وبالتالي ترى المليشيات الحاكمة في الظل فرصتها الوحيدة للهروب من العقاب المجتمعي والقانوني هو الدفع باتجاه خلط الاوراق والوصول الى الذروة في اعلان الحرب الأهلية وهي محاولة بائسة لمساواة المجرم القاتل بصاحب القضية العادلة. نعم الحرب الأهلية اعلنت من طرف واحد وهي المليشيات المسلحة او ما يسمى بالطرف الثالث بارتكابها عمليات قتل لأكثر من 700 متظاهر سلمي وجرح اكثر من 30 ألف مواطن من بينهم المئات من الإعاقات الدائمة، وكذلك تغييب اكثر من 130 ناشط مدني وكادر اعلامي وصحفي.
معهد السلام العالمي، وهو معهد أمريكي مستقل يتخذ من مدينة نيويورك مركزا له ويعمل على منع الصراعات بين الدول وضمن الدول نفسها، قام بإعداد دراسة موسعة لجميع الحروب الأهلية التي حظيت باهتمام مجلس الأمن الدولي على مدى عقدين من السنين. ووضع في ضوء ذلك بعض المعايير للحكم على طبيعة النزاعات وتصنيفها، وقد ورد تعريف للحرب الأهلية يتلخص في أنها “صراع مسلح يشترك فيه طرفان أو أكثر، يسقط فيه ما لا يقل عن 500 قتيل سنويا، وتكون الحكومة القائمة الطرف الرئيس في هذا الصراع”. وقد أولى المعهد اهتماما للحروب الأهلية التي قد تستمر سنوات عديدة قد تهدأ فيها أحيانا، واعتبر أن هذه الحرب تعتبر نشطة وقائمة متى تخللتها معارك دموية، لا يقل عددها عن خمس وعشرين معركة خلال سنة. وفي ضوء تلك المعالجات فأن حالة الحرب الاهلية في العراق هي معلنة من طرف واحد قد يكون حكوميا أو مليشيات الدولة العميقة وبما سببه من ضحايا منذ الاول من اكتوبر الماضي الذي اندلعت فيه الاحتجاجات المطلبية.
معالجة الوضع السياسي العام في العراق لا يحتمل اعلان حرب اهلية من قبل المحتجين السلمين الذين قدموا التضحيات الميدانية الكبيرة لا غناء وترسيخ المفهوم السلمي للحركات الاحتجاجية، وان هناك من يدفع باتجاهات لجعل انتفاضة اكتوبر انتفاضة مسلحة وتلك اجندة تلحق الضرر بالسلم الاهلي الذي يعاني اصلا من تلكأءات كبيرة ومن بقايا حقب الحرب الاهلية ما بعد 2003 وخاصة ان موازين القوى ومستويات التنظيم الميداني لازالت غير راجحة لجانب المحتجين. وبالتالي أن جوهر الضغوطات الجماهيرية المشروعة بعد اسقاط حكومة عادل عبد المهدي تجري التركيز على ما يلي والذي يسبق اجراء الانتخابات المبكرة:
أقرارالقانون الانتخابي: وهو من اختصاص مجلس النواب وقد تم التصويت على أغلبية مواده، وان المتبقي تحديد عدد الدوائر وعدد المقاعد المخصص لكل دائرة، والتي هي محل شد وجذب بين الكتل السياسية حتى هذه اللحظة. وحسب تقديرات المفوضية العليا المستقلة للانتخابات، لابد من إقرار القانون الانتخابي قبل ستة أشهر من الموعد المحدد للانتخابات، لغرض توفير المواد اللوجستية.
تعديل قانون المحكمة الاتحادية: لقد أصبح تعديل قانون المحكمة الاتحادية حاجة ملحة بعد الاختلال في قوامها، لغرض إعادة النصاب لاجتماعاتها، لأنها هي المعنية بالمصادقة على النتائج النهائية للانتخابات العامة لعضوية مجلس النواب، وفق (الفقرة سابعاً، المادة 93 من الدستور العراقي).
حل مجلس النواب: لا يمكن الحديث عن الانتخابات العامة المبكرة دون الاتفاق بين الكتل السياسية على حل مجلس النواب بالأغلبية المطلقة لعدد أعضائه، بطلب من ثلث أعضائه أو من قبل رئيس مجلس الوزراء وموافقة رئيس الجمهورية، وان يكون ذلك قبل شهرين من السادس من حزيران إذا اتفقت الكتل السياسية على هذا الموعد، ليتسنى لرئيس الجمهورية الدعوة للانتخابات العامة المبكرة، وفق (الفقرة ثانيا، المادة 64 من الدستور).
تطبيق قانون الاحزاب السياسية: لقد تم إصدار قانون الأحزاب منذ 2015 دون إجراءات حقيقية لتفعيله، وقد جاء ضمن المنهاج الوزاري: التطبيق الكامل لقانون الأحزاب وهو من اختصاص الوزارة والمفوضية العليا المستقلة للانتخابات وكذلك ديوان الرقابة المالية وأيضا يقع من مهام مجلس النواب المعني بالرقابة على أداء هذه المؤسسات. لضمان الحد المقبول من تكافؤ الفرص بين الكيانات السياسية عند خوض الانتخابات.
نزع سلاح المليشيات السائبة والسيطرة على السلاح المنفلت والاستعانة بالمنظمات الدولية لمراقبة الانتخابات وتوفير بيئة آمنة للناخبين الى جانب الجرأة الحكومية في الاعلان عن قتلة المتظاهرين وبما يسهم في خلق مزاج مطمئن للناخب ورسالة للمواطنين ان الحكومة قادرة على اتخاذ قرارات مصيرية تبعث الامل وتؤسس لنظام سياسي جديد يعبر عن ارادة المواطن بعيدا عن التزوير والتهديد وسلب ارادة الناخب.
ان مشكلات العراق الاقتصادية والاجتماعية السياسية والمتراكمة لعقود لا يمكن حلها بحرب اهلية تحرق الأخضر واليابس وتضيع بصيص أمل التغير، وناهيك عن انخفاض اسعار النفط وتداعياته الاقتصادية والمالية الخطيرة على البلاد الى جانب جائحة كورونا وعجز القطاع الصحي عن التخفيف من هول الوباء، فهناك وبالارقام فقط بعيدا عن التفاصيل ما يعكس عمق ازمة مجتمعية تحتاج الى معالجات شاملة:
3 ملايين و400 الف مهجر موزعين على 64 دولة. 4 ملايين و100 ألف نازح داخل العراق. مليون و700 ألف يعيشون في مخيمات مختلفة. 5 ملايين و 600 ألف يتيم (اعمارهم بين شهر ـ 17 سنة ). 2 مليون ارملة أعمارهن بين 15 ـ 52 سنة. 6 ملايين عراقي لا يجيد القراءة والكتابة وفي مقدمة المدن التي منتشرة فيها هي: البصرة وبغداد والنجف وواسط والانبار. نسبة البطالة 31% وفي مقدمة المدن: الانبار والمثنى وديالى وبابل في الصدارة تليها بغداد وكربلاء ونينوى. 35% من العراقيين تحت خط الفقر(اقل من 5 دولار يوميا). 6% معدل تعاطي الحشيش والمواد المخدرة ( بغداد في الصدارة تليها البصرة والنجف وديالى وبابل وواسط). 9٪ نسبة عمالة الأطفال دون ١٥ عاماً.
انتشار 39 مرض ووباء ابرزها الكوليرا وشلل الأطفال والكبد الفايروسي وارتفاع نسبة الإصابة بالسرطان والتشوهات الخلقية. توقف 13 ألف و 328 معملا ومصنعا ومؤسسة انتاجية. تراجع مساحة الاراضي الزراعية من 48 مليون دونم الى 12 مليون دونم. استيراد 75% من المواد الغذائية و91% من المواد الاخرى. التعليم الاساسي في اسوء حالاته( 14 ألف و658 مدرسة، تسعة آلاف منها متضررة و 800 طينية والحاجة الى ألف مدرسة جديدة). الديون العراقية اكثر من 124 مليار دولار من 29 دولة. بلغت مبيعات النفط للأعوام ( 2003 ـ 2016 ) الف مليار دولار لم تسهم في حل اي مشكلة من مشكلات المجتمع العراقي، بل هناك تقديرات بأن مابلغ من اهدار للمال بلغ 1400 مليار دولار.
الوعي في القضايا المصيرية واتخاذ موقف منها محددا هو ليست سلوك فطري تحمله لنا الوراثة البيولوجية على نسق ما نولد به من صفات جسميه بل انه سلوك وموقف عقلي وفكري يتربى عليه المرء والمجتمع من خلال زرع منظومة قيمية صالحه تكون مخرجاتها النهائية هو تشكيل وعي محدد اتجاه الوطن والمواطنة وادراك حجم المخاطر التي تهدد البلاد وما يتبع ذلك من سهولة وانسيابية في تشكيل رأي عام يصب في مجمله في التعبئة الوطنية الصالحة ووفقا للأمكانيات المتاحة وخلق حالة من التلاحم بين الشعب والحكومة الحالية بما يعزز تماسك الجبهة الداخلية.
في العراق وحيث الجبهة الداخلية تعاني من تصدعات كبرى على مستوى السياسة والاقتصاد والمجتمع وحيث معاناة الشعب وعدم اشباع الحاجات الأساسية التي تشكل بدورها الحد الأدنى من ضرورات تشكيل المناعة الصالحة، نجد اليوم خلاف حاد حول اولويات المواطن العراقي في حياته اليومية وخاصة عندما يرى الفساد الأدري والمالي ينخر في السلطات الحاكمة ومؤسسات الدولة والمجتمع، ولا اريد هنا اعادة التذكير بعقود سبقت سقوط الدكتاتورية والتي أخلت بمفهوم الانتماء للوطن والمواطنة ومن تأصيل لقيم الدكتاتورية والقمع وربط كل المفاهيم الوطنية بشخص قائد الضرورة فهو الفلتر الأساسي للمنظومة الأخلاقية والقيمية وهو المحك والمصدر الأساسي في الرضى وعدمه ومنه تشتق مفاهيم ماهية الدفاع عن الوطن وتعريف المواطنة وتحديد الأصدقاء والأعداء، في وسط هذا التراكم وتراكم ما بعد سقوط النظام يرى المواطن العراقي نفسه في قلق وجودي يتمثل في فوضى الحاضر وغياب المستقبل الى جانب عدم ثقته في النظام السياسي الحالي. كل هذا التراكم يعزز من صراع الأقدام والأحجام في المواقف المصيرية.
الطريق للتغير الايجابي ليست سهلا لأن طبيعة وبنية السلطة في العراق واحزابها القائمة على الهويات الفرعية وليست على فكرة المواطنة والولاء للوطن لن تؤمن بالتداول السلمي للسلطة وديمقراطية الانتخابات، وترى في صناديق الاقتراع وسيلتها للاستحواذ على السلطة والانفراد بها، وبالتأكيد ستتشبث القوى القديمة البالية في البقاء والعناد وسوف تلجأ الى كل الخيارات غير النزيهة لتغير وتشويه مسار ونتائج وعملية الاقتراع، طبعا الى جانب عبثها الحالي بتوقيتات اجراء الانتخابات مبكرا والتحايل على القوانين ذات الصلة، ولكن انها فرصة شعبنا لخوض غمار تجربة الانتخابات لتغير موازين القوى السياسية والبدا في عملية اعادة بناء النظام السياسي على اسس من العصرنة والديمقراطية الحقة.
اضف تعليق