الاستقلالية لا تعني العزلة عن العالم، انما تعني التعامل مع بقية المجتمعات والدول من موقع المصالح المتبادلة وليس من موقع المصالح التابعة. فالعزلة ليست ممكنة، وكانت المجتمعات المستقلة صاحبة السيادة تتبادل الخبرات والمنتجات بكل حرية وسيولة، قبل ان يبدأ عصر الاستعمار الاوروبي الذي اخذ يفرض شروطه على المجتمعات الأخرى...
"وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا"، هذه الاية الكريمة تعبر عن قانون تاريخي مفاده ان المجتمع ذا المركب الحضاري السليم لا يمكن ان يكون تابعا وخاضعا لسلطة خارجية. فاذا ما حصل الخلل في المركب الحضاري للمجتمع تكونت لديه ما يسمه مالك بن نبي القابلية على الاستعمار او الخضوع او التبعية، بمعنى ان المجتمع يفقد القدرة على المقاومة والممانعة والمحافظة على الاستقلال.
وهذا ما حصل للمجتمعات الاسلامية في نهاية القرن الخامس عشر وبداية القرن الذي يليه حين ضعفت البنية الداخلية لهذه المجتمعات بعد الغزو المغولي والصليبي وخسارة الاندلس، وصعود القوة الاوروبية على يد البرتغاليين والاسبان والهولنديين، ثم البريطانيين والفرنسيين، ثم الاميركيين، حتى غدت المجتمعات الاسلامية تابعة اقتصاديا للغرب، حتى مع نيل استقلالها السياسي الشكلي.
فوقعت هذه المجتمعات اسيرة ما يسميه الكتاب الماركسيون "التبادل اللامتكافئ" مع الدول الغربية، المتقدمة اقتصاديا وعسكريا وتكنولوجيا، وتقسيم العمل على الصعيد العالمي لصالح هذه الدول، وتسرب نسبة عالية من الجهد الاقتصادي للمجتمعات الاسلامية (او فائض القيمة) اليها.
وانني اجد نفسي متفقا مع والتر رودني في قوله: "وحينما يجد اي شعب نفسه مرغما على التخلي لسلطته كليا لمجتمع اخر، فان ذلك في حد ذاته يعتبر شكلا للتخلف". ("اوروبا والتخلف في افريقيا"، ص ٣٢٨، ترجمة احمد القصير).
فقد بدأت المجتمعات الاسلامية اعتبارا من نهاية القرن الرابع عشر بفقدان سلطتها، اي استقلالها السياسي والعسكري، امام الغزاة الاوروبيين الامر الذي عزز التخلف العام/ الخلل الحاد الذي كان قد بدأ يتسلل الى المركب الحضاري لهذه المجتمعات قبل ذلك بقرون، تحصل التبعية حين يفقد المجتمع السيطرة على شروط انتاجه بما في ذلك شروط التبادل او التجارة مع المجتمعات الاخرى. وفقدان السيطرة خلل حاد في المركب الحضاري.
ولا تحصل التبعية المقصودة في الجانب الاقتصادي فقط، انما تحصل في الجانب السياسي والفكري والاعلامي وكل مجالات الحياة، وكلها تعني في الجوهر فقدان المجتمع السيطرة على شروط الانتاج بمعنى ان انتاجه الاقتصادي والسياسي والفكري والاعلامي الخ يكون تابعا وخاضعا لشروط ومتطلبات ومصالح مجتمع اخر، كمثل انتاج وتصدير النفط، او زراعة القطن، او غير ذلك، مرة يكون وفقا لمصلحة البلد المنتج، ومرة لصالح دولة ما، وهذه الحالة الثانية هي التبعية بعينها.
وقد عانت بلدان العالم الاسلامي وعموم المجتمعات المتخلفة من التبعية، فأصبحت مقلدة للمجتمعات "المتقدمة" في فكرها وسياستها واقتصادها وفنها واعلامها، حتى بعد ان نالت اقتصادها السياسي الشكلي، بل نشأت احزاب سياسية تعلن تبعيتها العقائدية والسياسية لدول المنشأ. وكان لذلك اكبر الاكثر في اعاقة تقدمها، وفي اصلاح الخلل في مركبها الحضاري، الاستقلالية هي المقابل الموضوعي للتبعية، وتعني سيطرة المجتمع على شروط الانتاج في كل المجالات. فالمجتمع يتخذ قرارا سياسيا او اقتصاديا او غير ذلك بناء على مصالحه الحيوية هو بالذات.
لكن الاستقلالية لا تعني العزلة عن العالم، انما تعني التعامل مع بقية المجتمعات والدول من موقع المصالح المتبادلة وليس من موقع المصالح التابعة. فالعزلة ليست ممكنة، وكانت المجتمعات المستقلة صاحبة السيادة تتبادل الخبرات والمنتجات بكل حرية وسيولة، قبل ان يبدأ عصر الاستعمار الاوروبي الذي اخذ يفرض شروطه على المجتمعات الاخرى بالقوة العسكرية مرة وبالدهاء السياسي مرة اخرى. يتجه العالم نحو التكامل الحضاري بين مجتمعاته ودوله ولا مشكلة في ذلك، انما يجب الحرص على ان تجري عمليات التكامل والتبادل من موقع الاستقلال وعدم التبعية. الاية التي صدّرت هذا العمود بها تقول ان العلاقة بين المجتمعات المختلفة، بغض النظر عن التعابير الدينية التي استخدمتها الاية، يجب ان تكون متكافئة. وهذا من شروط النهوض الحضاري.
اضف تعليق