ان الأرضية الثقافية التي تقوم عليها منطقتنا، لم تسعف شعوبها المتطلعة لحياة عصرية، بعيدا عن عقد الماضي، في الخروج من مازقها الذي بات يتفاقم بشكل كبير، تعنت الصهاينة، وضعف العرب وتشتت قرارهم، ونفاق السياسة الاميركية، تؤكد سراب السلام ويقين الخراب الذي لا نعرف الى متى سيستمر! .
حين زار الرئيس المصري السادات، اسرائيل، في العام 1977 كان الامر بمثابة هدية من السماء هبطت على الرئيس الاميركي كارتر، على الرغم من ان هذا جاء على خلفية جهد كبير ورحلات مكوكية، قام بها هنري كيسنجر وزير الخارجية، ومستشار الامن القومي الاميركي في ادارة سلفيه، جيرالد فورد ونيكسون، اعتقد كارتر بأنه سيدخل التاريخ بوصفه راعيا لتسوية اعقد مشكلة في الشرق الأوسط، بينما رحبت بالزيارة قوى وشخصيات اسرائيلية ووجدت انها فرصة لإقامة سلام دائم مع العرب، ومن مناخ تلك الاجواء، انبثقت حركة (السلام الان) التي ضمت شخصيات من فعاليات مختلفة.
ظهور هذه الحركة جاء بعد قيام مجموعة من الضباط والجنود الاحتياط بتوجيه رسالة إلى رئيس الوزراء (مناحيم بيغن) يحثونه فيها على السلام، فأمن اسرائيل، كما يرون، يكمن في السلام مع العرب، فهو وفق رؤيتهم، افضل من السيطرة على أرض إسرائيل الكاملة (!) وهؤلاء العسكريون الاسرائيليون شاركوا في حربي 1967 و 1973 واستطاعوا بعد نشر الرسالة جمع 250 ألف توقيع عليها (الرقم كبير قياسا بنفوس اسرائيل وقتذاك) ... سبقت هذه الحركة بعقود، مبادرة (تحالف السلام) او ما تسمى بالعبرية (بريت شالوم) التي ظهرت في العام 1925 ونادت بدولة ثنائية القومية بين العرب واليهود، لكن المتطرفين الصهاينة قمعوها وانتهت في ثلاثينيات القرن الماضي.
حركة (السلام الان) مستمرة في نشاطها الى اليوم، واضيفت اليها حركة اخرى هي (المؤرخون الجدد)، وهذه ظهرت في ثمانينيات القرن الماضي ايضا، بعد رفع السرية عن الوثائق المتعلقة بحرب العام 1948 وما رافقها من فظائع بحق الفلسطينيين، اذ صدمت الكثيرين من المثقفين الاسرائيليين، لاسيما اليساريين منهم. وابرز نشطائها (بني موريس) الذي يعد مؤسسا لها و(ايلان بابيه) و(شلومو ساند) وغيرهم .. كان من بين نشاطاتها انتاج افلام سينمائية وبحوث واعمال ادبية تدعو الى اعادة قراءة رواية ظهور دولة اسرائيل، وانصاف الفلسطينيين واقامة سلام عادل بين الشعبين. لكنها ايضا تعرضت للمضايقة والقمع من قبل الصهاينة، بعد ان تركت اثرا يدل على رغبة الناس في العيش بسلام، بعيدا عن الشعارات الدينية الطوباوية.
السؤال الذي يطرح نفسه اليوم، وبعد ان تعقّدت الامور بشكل كبير؛ هل المشكلة في اميركا ام في اسرائيل ام في العرب والمسلمين انفسهم؟!، نعتقد بأن الامور باتت واضحة، فالصهاينة في اسرائيل يريدون دولة تعكس رؤيتهم الدينية (التاريخية) غير الواقعية، وهؤلاء هم من يمسكون بالسلطة ويؤثرون ايضا في القرار الاميركي من خلال اللوبي الصهيوني (منظمة ايباك) وغيرها، والاميركان انفسهم، يريدون من اسرائيل ان تكون وسيلة ضغط على العرب وغير العرب، ورأس حربة لهم في اهم موقع جيو سياسي، واخصب منطقة اقتصادية في العالم، وهم حتى الان يحققون مكاسب كبيرة من خلالها.
ويبقى العرب والمسلمون الذين لا يعرفون بالضبط ماذا يريدون.. فمن يريد منهم تدمير اسرائيل بالكامل ويجاهر بذلك، يقدم خدمة للمشروع السلفي الصهيوني، كونه يغذيه بمبررات استمراره داخليا ويدعمه سياسيا خارجيا، إذ تقدم اسرائيل نفسها للعالم بوصفها ضحية بوجود من يريد تدميرها، ومن يريد السلام بأي ثمن يسير بالاتجاه ذاته بلاشك، لأنه يغذي الاطماع الصهيونية ويقربها من اهدافها .. وللاسف اغلب القوى الماسكة بالقرار منقسمة بين هذين الفريقين، وكلاهما غير قادر على انفاذ مشروعه، لاسيما بعد اختلال المعادلة الستراتيجية بغياب اهم الدول العربية وانشغالها بمشاكل داخلية كبيرة، إن لم نقل انه غير جاد اصلا، ويستثمر في القضية لمصالح خاصة.
قرار اليمين الاسرائيلي الاخير القاضي بضم بعض الاراضي المحتلة في فلسطين وسوريا والاردن، وضع الجميع على المحك، فاميركا راعية (عملية السلام) منذ اكثر من اربعين عاما، اثبتت انها من اكبر مصدري الشعارات في العالم، وباتت امام استحقاق اخلاقي كبير، لان ما تسعى اليه حكومة نتنياهو، مخالف لقرارات مجلس الامن ذات الصلة، لاسيما ان العرب وافقوا على حل الدولتين منذ العام 2002، الذي لا يحتاج الى خرائط طريق سياسية وجغرافية جديدة، فقرار التقسيم موجود ومكفول امميا!
والعرب والمسلمون ممن يدّعون التصدي للقضية الفلسطينية عليهم ان يكونوا واقعيين ويبتعدوا عن الشعارات الطوباوية، ويكون لهم موقف موحد بعيدا عن اية متاجرة، لان استمرار الحال على ما هو عليه ادخل المنطقة وشعوبها في المجهول فعلا.
للاسف، يبدو ان الأرضية الثقافية التي تقوم عليها منطقتنا، سواء بإرثها الثقيل القديم الذي صار يستأنف باشكال جديدة، او بثقافتها السياسية الحديثة، لم تسعف شعوبها المتطلعة لحياة عصرية، بعيدا عن عقد الماضي، في الخروج من مازقها الذي بات يتفاقم بشكل كبير .. تعنت الصهاينة، وضعف العرب وتشتت قرارهم، ونفاق السياسة الاميركية، تؤكد سراب السلام ويقين الخراب الذي لا نعرف الى متى سيستمر! .
اضف تعليق