لا تبدو الشهور القادمة مشرقة للعراق حكومة وشعبا، وستكون هناك تداعيات سياسية واجتماعية اكثر خطورة من التداعيات الصحية والاقتصادية، وربما نشهد مستوى مرتفع للغاية من الصراع السياسي بين طبقة سياسية منقسمة على نفسها، وغير راغبة بالتكيف مع واقعها، وتقبل حلوله الصعبة من جانب، وبينها وبين...
لا تبدو الشهور القادمة مشرقة للعراق حكومة وشعبا، وستكون هناك تداعيات سياسية واجتماعية أكثر خطورة من التداعيات الصحية والاقتصادية
تمثل جائحة كورونا (كوفيد 19) زلزلا مدمرا ضرب العالم اجمع، ولم يفرق بين أسود وأبيض وأحمر، وبين مسلم ومسيحي وهندوسي وملحد...، وبين قوي وضعيف، او ثري وفقير... فقد توزعت اضراره على البشر أجمعين بعدالة.
وخطر هذه الجائحة لا يتوقف عند أضرارها الصحية، بل أن خطرها الحقيقي هو التسونامي الكبير المرافق لها: سياسيا، واقتصاديا، واجتماعيا، وثقافيا والذي يبدو ان ملامحه النهائية غير واضحة في الوقت الحاضر؛ لأنها تتوقف في محصلتها النهائية على مدة استمرار الجائحة، وعدد المصابين والهالكين بسببها، فكما تذكر معظم التقارير الصحية الواردة من منظمة الصحة العالمية والمؤسسات ذات العلاقة ان العالم لازال بعيدا عن إيجاد لقاح نهائي للفايروس، ولا زال الكثير من البشر في انتظار الإصابة به.
لقد دفعت سرعة انتشار الفايروس، وحجم المخاطر التي تركها الى مراجعة معظم دول العالم لحساباتها سواء فيما يتعلق بأنظمتها الصحية، وبنيتها الثقافية والاجتماعية، او بفاعلية أنظمتها الحاكمة، وعلاقاتها الدولية، وسياساتها الاقتصادية. هذه المراجعة –أيضا- لا زالت في مراحلها الأولى؛ طالما أن العالم لم يتجاوز مرحلة الخطر، ولكن قطعا ستكون كبيرة وعميقة ومؤثرة ومتسارعة في المستقبل، وربما يتوقف عليها لا مستقبل كل دولة وشعبها على حدة، بل مستقبل النظام العالمي ومؤسساته وقواعده التي حكمت العلاقات بين دوله بعد الحرب العالمية الثانية.
وبعيدا عن التخمينات والتوقعات والتأملات المتوقعة لما بعد كوفيد 19، فان ما يهمنا عراقيا بالدرجة الأولى هو تأثيرات هذه الجائحة على بلدنا شعبا وحكومة، اذ يبدو ان الجائحة حدثت في وقت يعيش فيه البلد أسوء أوضاعه، على مستوى فاعلية نظام حكمنا، وتماسك قاعدتنا الاجتماعية، فضلا عن الوضع المتردي للعلاقة بين النظام والشعب، فزاد ذلك الطين بلة، وأضاف الى مصائبنا مصائب جديدة أكثر خطورة وتعقيدا وارباكا.
تشير توقعات صندوق النقد الدولي الى أن كوفيد 19 تسبب بانكماش في الاقتصاد العالمي هو الأكبر منذ الكساد الكبير عام 1929، وسيدفع وضع الاقتصاد العالمي ملايين القوى العاملة على مستوى العالم الى الشارع، كما انه دفع أسعار النفط العالمية الى الانهيار، وأنها ستواجه المزيد من التدهور قريبا، وأكثر التنبؤات تفاؤلا لا تتوقع تجاوز أسعار النفط حاجز الـ 45$ خلال السنتين القادمتين... هذه المؤشرات وغيرها تمثل صدمة غير متوقعة للعراق؛ لأنه يعتمد بنسبة تتجاوز الـ90% على صادرات نفطه في رفد موازنته العامة السنوية، وكانت حكومته تعول على ارتفاع الأسعار في تهدئة الشارع الشعبي المنتفض؛ من خلال امتصاص البطالة، وتفعيل البيئة الاستثمارية، ومعالجة مشاكل الفقر وغيرها.
لقد تبخرت معظم هذه الآمال العراقية مع الانخفاض الكبير في ريع المورد النفطي، وهذا يعني انعدام او ضعف الاجراءات الحكومية للمناورة وإيجاد الحلول لشارع شعبي يعيش قطاع عريض منه ظروف المعاناة والغضب على حكامه، وتحميلهم مسؤولية بؤسه، لاسيما مع وجود أكثر من عشرة ملايين عراقي تحت خط الفقر (حسب بيانات وزارة التخطيط العراقية)، ومع فقدان شبه تام للثقة بين الحكومة والشعب.
وقد تفاقم هذا الحال في الأشهر الأخيرة بشكل منقطع النظير؛ نتيجة الصراعات بين القوى السياسية، والتقاطع المرعب في المصالح الإقليمية والدولية الذي اتخذ من الأرض العراقية ساحة للصراع وتصفية الحسابات، وعجز تام للطبقة السياسية عن التواصل مع الشعب وإيجاد المعالجات الناجعة لمشاكله...وهو ما شاهده الجميع بارزا فجا في قضية الاحتجاجات الشعبية الأخيرة (منذ الأول من تشرين الأول-أكتوبر 2019)، ومسألة تشكيل الحكومة الجديدة.
إزاء هذا الواقع المعقد والتداعيات الاقتصادية الخطيرة لكوفيد 19 لا تبدو الشهور القادمة مشرقة للعراق حكومة وشعبا، وستكون هناك تداعيات سياسية واجتماعية اكثر خطورة من التداعيات الصحية والاقتصادية، وربما نشهد مستوى مرتفع للغاية من الصراع السياسي بين طبقة سياسية منقسمة على نفسها، وغير راغبة بالتكيف مع واقعها، وتقبل حلوله الصعبة من جانب، وبينها وبين الشعب من جانب آخر، وسيزداد الصراع طرديا مع عجز الحكومة عن الوفاء بمسؤولياتها في تقليل معاناة الناس، وتوفير الخدمات الأساسية لهم، بل ان الأمور لن تقتصر على ذلك، وانما سنشهد ارتفاعا في العنف الاجتماعي، اذ كما هو معروف: كلما زاد الوضع الاقتصادي تدهورا ارتفعت معه معدلات العنف الاجتماعي، مثل: التفكك الاسري، والجريمة العادية والمنظمة، وتعاطي المخدرات، والانتحار، وصراع الأجيال، وغيرها. كما ستذهب جهود الحكومة –ان وجدت- في مكافحة الفساد ادراج الرياح، فقوى الفساد والقوى الموازية للدولة ستزيد نشاطها، بشكل أو آخر، في ظل وضع سياسي منفلت تغيب عن المسؤولين فيه إرادة الحزم والقدرة على محاربة المفسدين ومحاسبتهم عن جرائمهم.
هذه التوقعات وغيرها عن الوضع العراقي خلال المدة القريبة القادمة، هل تعني ان جائحة كورونا اوصلت البلد الى الهاوية، وأطلقت رصاصة الرحمة على عملية سياسية فقدت محركات بقائها واستمراريتها؟
الإجابة عن ذلك تتوقف على إرادة وإجراءات الحكومة القادمة، فقد تكون فعلا سببا في تعجيل سقوط العراق في الهاوية أو تكون حكومة تاريخية مسؤولة تعمل بنمط جديد يساعد على عبور الازمة، وتلافي مخاطرها أو جعلها بالحد الأدنى من الضرر، وكما يقول المثل الصيني: كل أزمة تمثل فرصة، فان كوفيد 19 قد يكون فرصة جيدة للحكومة القادمة لإعادة بناء الدولة على أسس وسياسات جديدة تعيد الاعتبار والهيبة لها، بشرط ان يكون هناك من يعرف كيف يحول الازمات الى فرص.
اضف تعليق