الدين الإسلامي هو دين الحرية واحترام العقل ومنجزاته. ووجود وقائع وحقائق في تجربة وحياة المسلمين مضادة أو مناقضة لهذه البديهية، لا يعني خلو الإسلام من تلك القيم والمبادئ التي تعلي من شأن الحوار والحرية والتسامح ونبذ التقليد الأعمى بكل صنوفه وأشكاله. ووجود مسافة بين الإسلام...
لعلنا لا نأتي بجديد، حين القول أن الدين الإسلامي هو دين الحرية واحترام العقل ومنجزاته. ووجود وقائع وحقائق في تجربة وحياة المسلمين مضادة أو مناقضة لهذه البديهية، لا يعني خلو الإسلام من تلك القيم والمبادئ التي تعلي من شأن الحوار والحرية والتسامح ونبذ التقليد الأعمى بكل صنوفه وأشكاله.
ووجود مسافة بين الإسلام المعياري والإسلام التاريخي، على هذا الصعيد، يحملنا جميعاً مسؤولية العمل على توحيد الواقع مع المثال، وتجاوز كل ما يشين إلى قيم الحرية والعدالة..
فآيات الذكر الحكيم تصدح بضرورة قول الحق والحقيقة وعدم كتمانهما، والعمل على تنمية المشتركات بين مختلف التعبيرات والأطياف الدينية والإنسانية.
إذ يقول تبارك وتعالى {يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيراً مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفو عن كثير قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين، يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم} (المائدة 15 – 16).
فالدعوة إلى التبيين وقول الحقيقة، هي التي تؤسس لفضاء اجتماعي حر يتعاطى مع كل الأفكار ولا يتوجس خيفة من الآراء بل يرحب بها ويدافع عن شروطها الاجتماعية والثقافية والسياسية..
ولكي لا تكون الآراء والأفكار بلا أفق، نجد أن القرآن الكريم، يؤكد على ضرورة بناء (كلمة سواء) وتوافقات عميقة بين مختلف الأطراف على قاعدة القيم المشتركة والمصالح المتبادلة. إذ يقول عز من قائل {قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون}.. (آل عمران 64).
فالمطلوب دائماً هو حضور مفردات اللقاء والتوافق، حتى تتعمق أسسهما في الفضاء الاجتماعي والثقافي، وتزول عناصر السلب أو تضبط من خلال الحوار الدائم والمفتوح، والمستند على عناصر اللقاء والتوافق.
فالإسلام ومن خلال هذه الآية القرآنية الشريفة، لا يدعو إلى المفاصلة الشعورية والعملية مع المختلف أو المغاير، وإنما إلى الحوار الذي يعلي من شأن المشتركات والجوامع، ويتطلع إلى صياغة مشروع عمل بين المختلفين في النقاط والمفردات التي تشكل محل إجماع وتوافق بين الجميع..
«وهكذا يعطي الإسلام للحوار خاتمته من دون أن يغلق بابه أو يسيء إلى الآخرين، بل كل ما هناك أنه يحاول أن يؤكد لهم بأن إعراضهم لا يغير من الموقف شيئاً لأنه لم ينطلق من خلال قناعات الآخرين وتشجيعهم، بل من داخل القناعة الذاتية المرتكزة على وضوح الرؤية، مما يجعل من استمراره نقطة تحد حاسمة.
وفي ضوء ما قلناه آنفاً، فليس هذا الطرح في أسلوب الحوار منطلقاً من خصوصية أهل الكتاب بل هو مستمد من المنهج العام للأسلوب الإسلامي، الذي يؤكد على نقاط اللقاء في رحلة الوصول إلى الحقيقة، ولا يؤكد على نقاط الخلاف إلا في نهاية المطاف.
وعلى هذا الأساس فلابد للدعاة إلى الله في حركتهم نحو الهدف الكبير من الدعوة إلى الله في كل زمان ومكان وذلك بأن يتلمسوا بأيديهم وأفكارهم المجالات المشتركة في العقيدة والأسلوب والحياة التي تربطك بالآخرين وتربطهم بك، لتقربهم إليك، ولتوحي لهم بأن هناك مرحلة من الطريق يمكن أن تمثل وحدة السبل في المرحلة الأولى أو الثانية، فإن ذلك كفيل بإلغاء الكثير من التعقيدات وتجميد الكثير من الحساسيات، وتقريب كثير من الأفكار، حتى إذا انتهى الأمر إلى نقطة الافتراق كانت الطريق ممهدة أمام الطرفين للوصول إليهما كمقدمة للسير عليها من موقع القناعات المشتركة التي تصنع الأرض المشتركة» (السيد محمد حسين فضل الله، من وحي القرآن، المجلد الثاني ص26).
فالحوار والتواصل بين المختلفين ليس حالة طارئة، أو تكتيكاً سياسياً، وإنما هو من القواعد الثابتة التي يرسي دعائمها الدين الإسلامي للتعامل بين المختلفين والمغايرين.. فالمسلم لا يتحرك في دعوته في أجواء الإرهاب والقتل والتدمير، بل في أجواء الحوار والموعظة والمجادلة بالتي هي أحسن.
وإن الذي يتطلع إلى إنجاز مشروعه الفكري والدعوي بالقتل والتفجيرات والاغتيالات. فإنه يناقض بذلك نصوص الشريعة الإسلامية، ويحارب قيمها ومبادئها، ويدفع الناس بوعي أو بدون وعي للانفضاض من حوله..
فالإسلام لا يدعو إلى ممارسة القسر والكراهية في الدعوة إليه، بل على العكس من ذلك تماماً.. إذ يحدد مهمة وظيفة الرسل الأساسية في التذكير والموعظة إذ يقول تبارك وتعالى {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن}.. (النحل الآية 125).
ويقول تعالى {فذكر إنما أنت مذكر، لست عليهم بمسيطر} (الغاشية 21 - 22) ويقول عز من قائل {لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم}.. (التوبة 128) ف «القوة - مهما كانت درجتها - لن تنسجم مع طبيعة الرسالة الإسلامية، ما دامت القوة تعني محاصرة العقل وفرض الفكرة عليه تحت تأثير الألم أو الخوف، وحتى عندما يحني رأسه أمامها فإنه يتظاهر بالقبول ليخرج من الكابوس، ويبقى بينه وبين الاعتقاد مرتع غزال» (محسن عطوي، زاد المبلغين ).
فالعنف ليس وسيلة من وسائل الدعوة، بل هو من وسائل التنفير والتدمير، وأي طرف يتوسل بهذه الوسيلة، فإنه يهدد الاستقرار السياسي والسلم الأهلي.. ولو تأملنا في سيرة الرسول الأكرم (صلى الله عليه وسلم)، سنجد أن الدعوة النبوية قامت على المحبة والأخلاق الفاضلة والتحلي بأجمل الصفات نفساً وسلوكاً.. فقد جاء في الحديث الشريف » سيد الأعمال ثلاثة: إنصاف الناس من نفسك، ومواساة الأخ في الله، وذكر الله تعالى في كل حال».
وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) «السابقون إلى ظل العرش طوبى لهم.. قلنا يا رسول الله ومن هم؟ قال: الذين يقبلون الحق إذا سمعوه، ويبذلونه إذا سألوه، ويحكمون للناس كحكمهم لأنفسهم هم السابقون إلى ظل العرش.. وقال (صلى الله عليه وسلم): الرفق رأس الحكمة، اللهم من ولي شيئاً من أمور أمتي فرفق بهم فأرفق به، ومن شق عليهم فأشقق عليه».
فقتل الأبرياء ليس طريقاً إلى سيادة الشريعة، وممارسة الإرهاب بكل صوره ليس سبيلا لإحقاق الحق وإزهاق الباطل، لذلك فإن الكثير من الأعمال الإجرامية التي تحدث اليوم باسم الإسلام والجهاد، هي في ذاتها وتأثيراتها لا تخدم الإسلام والمسلمين، بل تدخلهم في الكثير من التحديات، وتهدد الكثير من المكاسب على المستويات كافة.
فالعنف الديني والإرهاب الذي شاع في العديد من الدول والبلدان، بحاجة إلى مواجهة شاملة، حتى يتم إنهاء الجذور الفكرية والسياسية والاقتصادية والثقافية التي تقف خلف هذه الظاهرة الخطيرة وتغذيها باستمرار..
وفي إطار مواجهة آفة العنف والإرهاب، نحن بحاجة إلى التأكيد على النقاط التالية:
1- ضرورة الوقوف بحزم ضد كل أنواع التحريض التي تمارس ضد المختلف والمغاير، لأن استمرار حالات التحريض، هي التي تخلق البيئة الاجتماعية الحاضنة لممارسات العنف وأعمال الإرهاب، ولا يمكننا أن نواجه هذه الجرثومة، إلا بتجريم كل الممارسات والأقوال التحريضية، والتي تدق إسفينا بين مكونات المجتمع والوطن الواحد.. ولعلنا لا نجانب الصواب، حين القول: إن الكثير من الأعمال والتصرفات والتي يمكن وصفها بأنها من ممارسات وأشكال العنف الديني، هي بشكل أو بآخر من جراء ثقافة التحريض ومقولات التسفيه والتحقير التي تتوجه إلى فئة أو شريحة من المجتمع.. إن تجريم كل الممارسات الشائنة، والتي تستهدف تحقير بعض الناس سواء لقوميتهم أو مذهبهم أو دينهم، هو الخطوة الأولى في مشروع وأد وإنهاء الجذور الثقافية والاجتماعية لظاهرة العنف والإرهاب وبث الكراهية بين أبناء المجتمع الواحد.
فالمواطنة بقيمها وهياكلها ومؤسساتها، هي الإبداع الإنساني لحفظ الحقوق، وصيانة المكاسب، وإدارة التنوع بعقلية حضارية وإدارة حكيمة، ومبدأ الولاء والبراء، لا يعني ممارسة العدوان والحرب على الآخرين، وإنما وجود موقف نفسي يحول دون تأثير الآخر (المحارب والمعتدي) على أخلاقنا ونسيجنا الاجتماعي..
2- إن الاعتراف بالآخر في الدائرة الوطنية أو الإسلامية، لا يؤسس إلى التحاجز وخلق الكانتونات والجزر الاجتماعية المنفصلة عن بعضها. وإنما من أجل دمج كل هذه التعبيرات والأطياف في بوتقة واحدة وهي بوتقة الوطن والمواطنة..فنحن مع الاعتراف بكل الخصوصيات الثقافية والاجتماعية لكل شريحة أو فئة، ولكن هذا الاعتراف لا يعني الانكفاء والانعزال أو القبول بحالة التشظي الاجتماعي. إنما الاعتراف الواعي والحضاري، الذي يقودنا إلى بناء مواطنة متساوية بين جميع الأطراف والتعبيرات. فالاعتراف بالخصوصيات، لا يلغي مفهوم المواطنة، بل يبنيها على أسس ومنظومة الحقوق والواجبات المتكافئة والمتساوية. فالرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة ومن خلال صحيفة المدينة، أسس إلى هوية جامعة قائمة على مبدأ المواطنة المتساوية.
حيث تضمنت هذه الوثيقة تنسيق العلاقة بين المسلمين واليهود، وبعض من المشركين العرب. فقد كان الانتماء إلى دولة المدينة هو مقياس المواطنة، فالكل (بصرف النظر عن أديانهم) آمنون فيها، والكل مسئولون عن حمايتها. وبهذا خلق الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم في المدينة المنورة تجربة قامت على مواطنة، متساوية، بين مجموعات بشرية متغايرة في أديانها ومعتقداتها.
من هنا نصل إلى حقيقة أساسية في مشروع مواجهة ظاهرة العنف والإرهاب. وهي إننا كلما تقدمنا خطوات نوعية في مشروع إنجاز المواطنة المتساوية، اقتربنا أكثر في إنهاء الجذور السياسية والفكرية لهذه الظاهرة الخطيرة. لذلك نجد أن المجتمعات التي تعيش وضعا مستقرا على هذا الصعيد، هي الأقدر على مقاومة هذه الظاهرة وضبطها.
فالمواطنون سواء بصرف النظر عن أيدلوجياتهم وقناعاتهم الفكرية والسياسية.. ولا يجوز بأي شكل من الأشكال ممارسة التميز ضد بعض المواطنين لاعتبارات لا تنسجم وحقائق ومتطلبات المواطنة.. وينقل لنا التاريخ الإسلامي، الكثير من القصص، التي توضح أهمية المساواة وتكافؤ الفرص. ومن شواهد ذلك: «حدثني هشام بن عمار، أنه سمع مشايخ يذكرون الخليفة عمر بن الخطاب عند مقدمه الجابية من أرض دمشق، مر بقوم مجذمين من النصارى، فأمر أن يعطوا من الصدقات، وأن يجري عليهم القوت»..(فتوح البلدان.ص 131). فالاختلاف العقدي لا يعني الحرب الاجتماعية، والتباين في القناعات والمواقف لا يعني ممارسة التهميش والإقصاء.. تبقى قاعدة (البر) هي الحاضنة لكل التنوعات والتعدديات..
إذ يقول تعالى (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين)( الممتحنة، 8)..«إن النص ليس ظاهرا وحسب، بل هو بحر من الدلالات، وهو سيل من الأفكار والتصورات التي تكمن في باطنه، وتتوارى في أخاديد كلماته وحروفه والعلاقة بينهما. ونحن نعلم أن الكتاب الكريم حرم السب تحريما مطلقا، وحرم التجديف بحقوق وشرف الناس وسمعتهم، مهما كان دينهم، ومهما كانت لغتهم، والسب ظاهرة بارزة في حواء المتخلفين والطغاة والأميين، وهذا يضيف جمالاً آخر إلى جمال الإسلام في معالجة قضايا الخلاف»..(غالب الشابندر، الآخر في القران، ص 115).
فالمواطنة بمؤسساتها وقيمها وروحها، هي القادرة على دمج مختلف التنوعات في بوتقة واحدة بحيث تتحول التنوعات من مصدر قلق، إلى رافد من روافد الإثراء والتمكين.
فالتطرف وتبني خيار العنف، لا يخلق مواطنة متساوية، بل يفضي إلى تفكيك أسس الوحدة، ويدخل المجتمع في أتون الصراعات والنزاعات الحادة والدموية.. وإننا أحوج ما نكون اليوم، ومن أجل مواجهة خطر الإرهاب والتطرف والعنف، إلى تلك الثقافة التي تولي للمواطنة حقوقا وواجبات أهمية خاصة، وتتعامل مع مختلف التعدديات بوصفها حقائق قائمة ينبغي احترامها، وتوفير كل مستلزمات مشاركتها في البناء الاجتماعي والوطني.
3- يسعى البعض وعبر وسائل مختلفة إلى التفتيش على عقائد وأفكار الآخرين. ويجعل من نفسه (فردا أو جماعة) المحاسب على الصحة والفساد. فهو الذي يوزع صكوك الغفران والمقبولية، وهو الذي يطلق أحكام الضلال والبعد عن الجادة والطريق المستقيم، أو أحكام الهدى والسير على الجادة. ولا يكتفي بذلك بل يعمل على محاسبة الناس على أفكارهم وانتماءاتهم العقدية والفكرية.
ولاشك أن هذه الممارسات، تعطي للبعض سلطة ليست له، وتجعله يمارس واجبا ليس مكلفا به. وذلك لأن الباري عز وجل هو المعني وحده جل جلاله بمحاسبة الناس على عقائدهم وأفكارهم. إذ يقول تعالى (وإن جادلوك فقل الله أعلم بما تعملون، الله يحكم بينكم يوم القيامة فيما كنتم فيه تختلفون). (الحج، الآية 69-68).. ووجود فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لا تخول للإنسان مهما علا شأنه أن يتدخل في خصوصيات الناس، ويفتش عن عقائدهم وأفكارهم. فإن للإنسان حرمة وقدسية، لا يجوز التعدي عليها بأي شكل من الأشكال.
ولعل من أهم جوانب هذه الحرمة، رفض محاولات التفتيش على العقائد والأفكار، والتدخل (إذا جاز التعبير) في مختصات الباري عز وجل.
فالعدل هو المطلوب في العلاقة الاجتماعية والإنسانية، أما مسائل الضمائر والقلوب والعقائد، فالباري عز وجل هو الذي يحكم فيها.. ولا يجوز لأي إنسان أن يفتش على عقائد الناس..
يقول تبارك وتعالى(وأمرت لأعدل بينكم، الله ربنا وربكم، لنا أعمالنا ولكم أعمالكم، لا حجة بيننا وبينكم، الله يجمع بيننا، وإليه المصير) (الشورى، 15).
فالرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم لم يجبر أحدا على تغيير عقيدته، وعمل على صيانة حقوق الجميع.
وإذا كان هناك اختلاف وتباين بين المواطنين في عقائدهم وأفكارهم، فالمطلوب أن يحترم كل طرف عقائد وأفكار الطرف الآخر. ولا يجوز بأي شكل من الأشكال الإساءة لعقيدة أو أفكار أي مواطن.
وعلى ضوء هذا الاحترام المتبادل، يتم حوار بين مختلفين، وليس حوارا بين صاحب الحق والهدى، وبين آخرين يعيشون في ضلالهم وزيغهم. لذلك يقول تبارك وتعالى (قل من يرزقكم من السماوات والأرض قل الله وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين).(سبأ، الآية 24) فالمساواة في الاختلاف من الضرورات العميقة التي تساهم في نجاح أي مشروع حواري وفي أي دائرة من الدوائر.
فالمطلوب هو أن نتحاور مع بعضنا البعض، على قاعدة المواطنة المتساوية في الحقوق والواجبات. ولا توجد سلطة لأحد في تفتيش عقائد البشر واتخاذ الإجراءات اللازمة على ضوء عملية التفتيش. كل المواطنين سواء، في ضرورة صيانة حرمتهم، واحترام عقائدهم وأفكارهم، والسماح لهم للتعبير عنها في ظل قانون يحمي الجميع ويصون خصوصياتهم.
فالغيرية في العقائد والأفكار، لا تنفي حقوق المواطنة، بل تؤكدها. وليس من شروط المواطنة المطابقة في الأفكار والقناعات.
ومن يبحث عن المطابقة، فإنه لن يجدها. فالمواطنة بقيمها وهياكلها ومؤسساتها، هي الإبداع الإنساني لحفظ الحقوق، وصيانة المكاسب، وإدارة التنوع بعقلية حضارية وإدارة حكيمة، ومبدأ الولاء والبراء، لا يعني ممارسة العدوان والحرب على الآخرين، وإنما وجود موقف نفسي يحول دون تأثير الآخر (المحارب والمعتدي) على أخلاقنا ونسيجنا الاجتماعي..
فـ«الأصل في العلاقات مع الآخر في القرآن هي التواصل الفكري، والاجتماعي، والعائلي، والأخلاقي بدليل جواز مؤاكلتهم، ومخالطتهم، ومشاربتهم، ومصاهرتهم، والتعامل معهم في كل مجالات النشاط الاجتماعي. وهذه المقتربات لا تنسجم مع (التولي والتبري) كما يعرضها البعض في قالب عدواني ابتدائي مسبق. فإن الموالاة المنهي عنها تأتي في نطاق إعلان الكره والحرب من قبل الطرف الآخر، إنها تبدأ من الطرف الآخر، هي جواب على موقف سلبي من الآخر يبدر منه أولا، وليس مع كل (مخالف)، كما هو مقرر في الفقه الإسلامي، وإن المودة المنهي عنها في الكتاب الكريم هي مودة الذين ينصبون العداء السافر، ويعملون على التعريض بالمؤمنين، ومن ثم هي حالة قلبية أكثر مما تكون حالة عملية، بل هي موقف قلبي صرف عند كثير من الفقهاء». (غالب الشابندر. الآخر في القران. ص 119).
وعليه فإننا نعترف بالاختلافات بكل مستوياتها، وندعو إلى احترام الخصوصيات، ولكننا نعتقد أن تحويل الاختلافات من مصدر قلق وحذر إلى مصدر للإثراء الثقافي والاجتماعي، بحاجة إلى تكريس قيم المواطنة في الفضاء الاجتماعي.. وذلك لأن المواطنة هي الوعاء القانوني والسياسي والدستوري الذي يستوعب كل المبادرات والخطوات، ويعمل على إدماج كل التنوعات في منظومة الحقوق والواجبات المتساوية. فالمواطنة هي الحد الفاصل بين كل الاختلافات والتباينات في الدائرة الاجتماعية والوطنية.
فالاختلاف مهما علا حجمه، لا يبرر الانتقاص من مواطنة الإنسان. والتعدد مهما اتسعت دوائره ومستوياته، يضبط بالمواطنة بواجب الوحدة والانسجام وبحق التعبير وتحمل المسؤولية والمشاركة في صناعة الحاضر وصياغة المستقبل. وهكذا يكون الآخر، مشروعا للتعارف والحوار والتواصل والتعاون والتنمية وتطوير الجوامع المشتركة.
اضف تعليق