الأمة هي الفيصل في عمليات العمران الحضاري، ولولاها لما وصل الإسلام إلى أقاصي الأرض. وكان دور الدولة في التجربة التاريخية الإسلامية في هذا المجال هو دفع هذه الحركة، والتفاعل مع معطياتها ومتطلباتها. وإن الأزمة الكبرى التي وجدت في التجربة الحضارية الإسلامية، بدأت حينما سعت الدولة...
لعل من الموضوعات المحورية، التي تتطلب المزيد من التفكير والنقاش والحوار المفتوح على جميع الأفكار والتصورات، هو الموضوع المتعلق بطبيعة العلاقة التي ينبغي أن تكون بين الدولة بكل مؤسساتها وهياكلها والتزاماتها، وبين مؤسسات المجتمع والقوى الحية فيه.
وذلك لأن الكثير من المشاكل السياسية والاقتصادية والاستراتيجية، التي تبرز بين الفينة والأخرى في المجال العربي، هي في تقديرنا بفعل الخلل الذي يحدث في العلاقة بين الدولة والمجتمع.
لذلك فإن بناء تصور استراتيجي وواضح لهذه العلاقة، سيساهم بشكل مباشر وغير مباشر في إنهاء العديد من المشاكل في العلاقة بين الدولة والمجتمع في التجربة العربية المعاصرة.
وما نريد قوله في هذا الإطار، هو أن الأمة هي الفيصل في عمليات العمران الحضاري، ولولاها لما وصل الإسلام إلى أقاصي الأرض. وكان دور الدولة في التجربة التاريخية الإسلامية في هذا المجال هو دفع هذه الحركة، والتفاعل مع معطياتها ومتطلباتها. وإن الأزمة الكبرى التي وجدت في التجربة الحضارية الإسلامية، بدأت حينما سعت الدولة بآلياتها العسكرية والحربية وجبروتها وطغيانها السياسي، أن تلغي دور الأمة أو تقلصه تحت مبررات داخلية أو خارجية. حينذاك بدأت الدولة بمحاربة الأمة ومؤسساتها، وانعزلت الأمة عن الدولة ومقتضياتها.
ولعلنا لا نعدو الصواب حين القول: أن الكثير من الإخفاقات والنكسات التي أصابت التجربة الإسلامية على المستوى التاريخي، هي من جراء الانفصال الذي بدأ في مراحل مبكرة من التاريخ الإسلامي بين الدولة والأمة. ولولا الأمة وجهادها ومؤسساتها ومراكزها العلمية والدعوية والجهادية، لما استمرت حضارة الإسلام بالإشعاع حقب زمنية طويلة. فالتوسع المديني والحضاري الذي شهده العالم الإسلامي في عصره الذهبي (القرنين الثالث عشر والرابع عشر الميلاديين)، لم تصنعه إلا الأمة التي عملت وجاهدت على مستويين:
المستوى الأول: محاصرة حالة الانحراف والتشظي التي تصيب أو أصابت الداخل الإسلامي، والعمل بكل الوسائل المتاحة والمشروعة لضبط هذه الحالة، ومنع تمددها وانتشارها في الجسم الإسلامي.
والمستوى الثاني: الانطلاق في رحاب العالم، بإمكانات الأمة وآفاقها، لتوصيل الإسلام إلى الشعوب الجديدة.
فالحركية الاجتماعية الجـديدة، وذات الفعالية الكبرى التي عاشها العرب والمسلمون في تاريخهم الغابر، يرجع الفضل فيها إلى الأمة ومؤسساتها.
وذروة الحضارة في المجال العربي–الإسلامي، تبدأ حينما تتطابق إرادة الدولة وإرادة الأمة. والتطابق هنا يعني أن لا تمارس الدولة بأجهزتها المتعددة أي إقصاء ونفي وتهميش لإرادة الأمة، وأن يـكون لها دورها الحضاري في مجال سيادة قيم الدين في الواقع الخارجي.
وليس من المبالغة في شيء القول: إن غياب هذا التطابق الحضاري في الدور والإرادة بين الأمة والدولة، هو الذي فتح الباب على مصراعيه للمشاكل والأزمات والإخفاقات التي يعاني منها واقعنا العربي والإسلامي.
ولقد استغلت قوى الشر والبغي والهيمنة في العالم هذه اللحظة لتشتيت قوى الأمة وتفتيت عضدها، وتثبيت الحوائل التي تحول دون الاستقلال والتحرر والتنمية، وتكريس التخلف والإحباطات في عقل وفكر الأمة. فحينما غاب مشروع الأمة من التأثير والفعل النوعي، ضاعت فلسطين، ودخلنا جميعا في نفق التبعية والإستتباع الحضاري على مختلف المستويات، وتم اختراقها على مستوى السياسة والحكم، والاقتصاد والاجتماع، والثقافة والعلم، وأصبحنا من جراء كل هذا على هامش حركة التاريخ، وبعيدا عن متطلبات الاستقلال والتنمية الشاملة.
من هنا فإننا نستطيع القول: أن الإخفاقات الكبرى التي أصابت عالم العرب والمسلمين، كانت في زمن كان مشروع الأمة في أسوأ حالاته، وكانت العلاقة بين الأمة والدولة علاقة توتر وصراع. كما أن لحظات الظفر والانتصار تشكلت في التجربة الحضارية الإسلامية، حينما عادت للأمة روحها، وأصبحت تشارك بكفاحها وجهادها في تكريس إرادتها العامة على مسرح الأحداث الكبرى.
وهكذا نصل إلى حقيقة أساسية في التجربة السياسية للعرب والمسلمين وهي:
أن بداية الانطلاقة الحضارية الحقيقية، تبدأ من الأمة وقواها الحية، وأي مراهنة على غير الأمة، تزيدنا غبشا وضياعا وترددا. فحينما نعيد الحياة إلى جسم الأمة، فإنها تتحرك صوب أهدافها الكبرى بدون تعب أو كلل.
لذلك فإن مهمتنا الكبرى اليوم تتجسد في إنهاض الأمة وبناء قواها الذاتية، وتأهيلها من جديد، لكي تمارس حضورها وشهودها على العالم.
وإن نجاحنا كله مرهون بمدى قدرتنا على تحريك قوى الأمة، وتنظيم إمكاناتها وطاقاتها صوب أهداف محددة وغايات مشتركة. فحينما تتحرك الأمة، ويكون حضورها وشهودها شاملا، لن تصبح السلطة أو الدولة غريبة عن أهداف ومشروعات الأمة. "وفي العصور الإسلامية المتأخرة، حين صارت أكثر السلطات غريبة عن المدينة، لعبت المدينة دور الصامد، والحافظ، والمستوعب، فصارت هي القائمة بالوظائف الحضارية والسياسية للدولة بعد أن غابت تلك لا من حيث البنية، بل من حيث الارتباط بالمشروع التاريخي للأمة ".
ففي زمن ضعف الدولة واهتراء مشروعها، كانت الأمة تمارس دورها في مختلف المجالات على أكمل وجه. وحينما تتناقض إرادة الدولة والأمة، فإنها (الأخيرة) تجاهد لإعادة الدولة إلى وضعها الطبيعي، وفي نفس الوقت فإنها ترعى وتحتضن المناشط الحضارية للعرب والمسلمين.
أما إذا تكاملت إرادة الدولة مع إرادة الأمة، فإن ملحمة البناء والحضارة، تبدأ بالبروز والانطلاقة في عالم العرب والمسلمين. وكل الحقب المجيدة في تاريخنا، هو من جراء تكامل الإرادتين، أو فعالية إرادة الأمة في زمن خواء الدولة وضعفها الحضاري.
وإنه لولا قوى الأمة الذاتية وتنوعها الثري، لأصبحت الدولة كيانا خطيرا، يلتهم الجميع، ويقضي على كل فرص النمو والبناء خارج نطاق الدولة ومشروعاتها ذات الطابع المطلق والكلاني.
فالأمة في النص والتجربة التاريخية الإسلامية، لها دورا مركزيا في الحياة الدينية والاقتصادية والعلمية والسياسية والحضارية والخيرية للمسلمين. إذ أن أكثر المؤسسات والأطر في تاريخ التجربة الإسلامية، هي تنتمي إلى الأمة وتستند إليها في أنشطتها وأعمالها. وإن تغييب الأمة من الفعل الحضاري، حرم المجتمع الإسلامي من مصادر قوته وعزته وتطوره، وأتاح المجال لعوامل خارجية من اختراق الجسم الإسلامي، والتحكم في مستقبله ومصائره.
و"إن ما يحرك العرب ويعبر عن مزاجهم التاريخي هو مفهوم الأمة، والأمة موجودة في وعيهم سواء توحدوا أم لم يتوحدوا وسواء وجدت الدولة الواحدة أم لم توجد. هم يعلمون أن الوحدة ضرورية، وبدونها يبقى مفهوم الأمة متحققا على الصعيد الثقافي وحسب. كما يعلمون أن الدولة ضرورية أيضا لأنها تنقل وجود الأمة من الصعيد الثقافي إلى الصعيد السياسي، فهي الأداة التي تحقق الأمة بها وجودا فعليا يساعدها على ممارسة دعوتها التي تخرجها من الحيز القومي الضيق إلى مجال أرحب وأوسع هو العالم والكون بأسره. الأمة تقود إلى الوحدة، والوحدة تقود إلى الدولة، لكن وجود الأمة لا يتوقف على تحقيق الوحدة أو الدولة، بل أن وجود الأمة هو الشرط الضروري لكل ما عداه ".
فالأمة في المجال الحضاري الإسلامي، هو المجال الحيوي الذي يتحرك فيه المسلمون لتنمية قدراتهم وتطوير أوضاعهم والتواصل مع العالم والقوى الدولية. والدولة هنا وفق هذا المنظور، ليست منفصلة عن الأمة وإرادتها وخياراتها، وإنما هي جزء من إرادة الأمة وجسرها لإنجاز مفاهيم السيادة والعزة والاستقلال والتنمية.
فالأمة هي التي تصنع الدولة، لذلك نجد أن التوجيهات الإسلامية الكبرى، والتي تؤكد على قيم مفصلية في التجربة التاريخية الإسلامية تتوجه إلى الأمة بأسرها..
قال تعالى [كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون].
كما أن الدولة ضرورة من ضرورات الأمة والوجود الإنساني. فبها تستطيع الأمم خلق الوقائع الاقتصادية والسياسية والاجتماعية.
"فالسلطة ضرورية لانتظام الدنيا، وانتظام الدنيا ضروري لانتظام الدين، وانتظام الدين ضروري لتحقيق السعادة في الآخرة".
وجــاء في الحـديث: " إنا لا نجــد فرقة من الفرق، ولا ملة من الملل، بقوا وعاشوا إلا بقيم ورئيس، لما لا بد لهم منه في أمـر الدين والـدنيا، فلم يجز في حكمة الحكيم أن يترك الخلق مما يعلم أنه لا بد لهم منه، ولا قوام لهم إلا به فيقاتلون به عدوهم، ويقسمون به فيئهم، ويقيمون بـه جمعتهـم وجماعتهم، ويمنع ظالمهم من مظلومهم ".
" وهي (الدولة) استجابة للفطرة والضرورة التي يقتضيها الاجتماع البشري الذي لا يعقل تحققه من دونها. والمجتمع الإسلامي ليس شذوذا خارجا عن هذه الفطرة، وعن هذه الضرورة. وهي ضرورة يفرضها كون الإنسان – المجتمع جزءا من الكون المحكوم بنظام كـوني ثابت وشامل لجميع الموجودات في عوالم الجماد، والحياة النباتية، والحيوانية.. هذه العوالم التي يقف الإنسان في قمتها كائنا، واعيا، عاقلا، مريدا، مختارا، حرا.وقد سخر الله له سائر العوالم، وزوده بالوسائل والقدرات المادية والعقلية، والنفسية، للانتفاع بها في نطاق استخلافه ".
ولكن ينبغي أن لا تتحول هذه الضرورة إلى غول يلتهم كل إمكانات المجال الحضاري الإسلامي، أو يعطل من حركة الأمة صوب أهدافها الكبرى وتطلعاتها المستقبلية.
فالــدولة الإسـلامية التاريخية، لم تبنى إلا بعد بناء الأمة، فهي المجال الاجتماعي – الحضاري الضروري لبناء الدولة. كما أن الإضافات النوعية التي أضافتها التجربة الإسلامية إلى التاريخ الإنساني قاطبة، يرجع الفضل إلى الأمة في ذلك. إذ هي التي احتضنت إبـداعات وجهود وجهاد المسلمين، وهي التي تحملت كل الصعاب في هذا السبيل.
والدولة الحقة في عالم الإسلام، هي التي تنبثق من إرادة الأمة، بمعنى أن يكون قيام الدولة ووظائفها ومشروعها السياسي، ليس على تناقض مع مقتضيات الشرع والمصلحة العليا للمسلمين. "والدولة لا تكسب الشرعية إلا بمقدار انتمائها للأمة، وبمقدار ما تستطيع البرهان على أنها تدافع عنها وتبذل الجهد لحل مشاكلها".
فالدولة وفق هذا المنظور، هي في حالاتها السوية مؤسسة من مؤسسات الأمة، لها أدوارها ووظائفها المحددة. ومع هذه المؤسسة (الدولة) تحتضن الأمة مؤسسات أخرى، وتمارس وظائف وأدوار عديدة، تتكامل في المحصلة الأخيرة مع أدوار ووظائف مؤسسة الدولة.
وانشقاق وابتعاد الدولة عن الأمة، يخرجها من كونها مؤسسة من مؤسسات الأمة، وذلك لأن انشقاقها وخروجها عن الأمة، يعني فيما يعني أن الدولة تقوم بأدوار أو تمارس خيارات ليست من خيارات الأمة. ويمكننا القول تاريخيا أن مرحلة ما بعد صفين، هي المرحلة التي تبلور في المجال العربي والإسلامي للدولة مشروعا خاصا، وهو مشروع الاستحواذ والقمع بعيدا عن مصالح الأمة الحقيقية وشؤونها العليا.
و"إن المشروع السياسي للإسلام هو تكوين الجماعة/الأمة. فهي الإطار الوحيد الذي يمكن أن يمارس الفرد فيه شعائر الدين كاملة. وهي المجال الوحيد لتحقيق الدين. وإن كانت مفارقة سخيفة أن نقول إن الدين لا يمكن تحقيقه خارج الجماعة لكنها حقيقة بديهية ربما يتناساها الكثيرون من الذين يعتبرون أن الدين، خاصة الإسلام، يمكن تحقيقه على الصعيد الفردي المحض. هذه التجربة حاولتها الصوفية لكنها تحولت عنها بعد فترة من الزمن. فقد بدأت الصوفية كأسلوب فردي في التعبير والاتصال بالله لكنها تحولت مع مرور الزمن إلى ممارسات جماعية وصارت طرقا جماعية".
واختلاف المسلمين التاريخي لم يكن حول الأمة ودورها التاريخي والحضاري، ولا حول ضرورة الدولة وأهميتها للتجربة الجديدة، وإنما حول عملية إنشاءها، وطريقة ممارستها لأدوارها في الأمة على الصعيد الداخلي والخارجي، ومن أين تستمد شرعيتها وسلطتها. فالإطار المرجعي لكل المسلمين مع اختلافاتهم وتباين وجهات نظرهم بعد انتقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى لم يكن الدولة وإنما الأمة.
ولقد كانت لقيم الأخوة والمساواة والتعاون والتكافل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومؤسسات العلم والمعرفة والخير، وجهاد وجهود الفقهاء والعلماء والمصلحين دورا مركزيا في تثبيت مرجعية الأمة، وأنها صاحبة الصوت الأعلى في التجربة التاريخية الإسلامية.
ومن خلال هذه القيم والمؤسسات كانت الأمة تؤكد ذاتها، وتعمل على تنفيذ مشروعها الحضاري، وتحصين كيانها في مواجهة أخطار الدولة المنحرفة، المستبدة، والأخطار القادمة إلى الأمة من الخارج.
اضف تعليق