q
مهما تكون مرارة الواقع، واستغلال الفاسدين في ظل هذا الواقع، فان تعميم الثقافة الايجابية، والرؤية الواقعية للأمور من شأنها ان تضع هؤلاء الفاسدين أمام واقع جديد تجبرهم على تغيير سلوكهم، او الانصياع قهراً لمطالب الجماهير حفاظاً على مواقعهم لان الخطاب سيكون جماهيرياً عاماً وليس صادراً من فئة معينة...

في جميع شوارع العالم الشاهدة على التظاهرات الاحتجاجية والمطلبية، وحتى في مستوى الثورات التغييرية، ترفع شعارات الرفض للاستبداد، والفساد، ومصادرة الحريات، والتمييز الطائفي او العنصري وغيره، ثم يتفرع مسار الثورة؛ إما الى أن يتحول الرفض الى ثقافة ومنهج لدى اصحابه، ثم يتحول الى سلاح فتاك لحالة مليشياوية تقدم للمجتمع، وإما تكون مرقاة للصعود نحو الحلول والبدائل المفترض ان تكون معد لها سلفاً، فالاستبداد يقابله –بالضرورة- الانفتاح على الرأي الآخر، ثم التداول السلمي للسلطة، ومصادرة الحريات، تقابلها صياغة قوانين تصون الحريات العامة، وهكذا؛ البدائل يفترض ان تكون جاهزة، أي أن تكون "بلى" حاضرة في جدول أعمال الحراك الجماهيري فيما يتعلق بآفاق المرحلة.

في دول الشرق الاوسط التي شهدت الحراك الجماهيري بأشكاله المختلفة، ظهر الرفض باشكال مختلفة ايضاً؛ ففي مصر الثورة على سلطة حسني مبارك، كانت "كفاية"، وفي عراق الثورة على سلطة الديمقراطية، كان "مرفوض" لأي مرشح لرئاسة الوزراء ترشحه وتصوّت عليه التكل السياسية في مجلس النواب، بدعوى انغماس هذه الكتل واحزابها في مستنقع الفساد.

تشبث أحزاب السلطة بمواقعهم ومكاسبهم يشكل عاملاً محفزاً على مزيد من الرفض والاصرار على هذا الرفض تجسيداً لقاعدة "الفعل و ردة الفعل"، وهذا المسلك يؤدي –من حيث لايريد المتظاهرون- الى انزلاق التظاهرات المطلبية ومساعي التغيير، نحو صراع داخلي يبتعد عن الحرب الكبرى ضد الفساد والديكتاتورية وكل ما يعاني منه المواطن العراقي، فيأتي شعار الرفض ليس لمحمد توفيق علاوي –مثلاً- وهو الداخل لتوّه الى مسرح الاحداث، ولم يفعل شيئاً سوى انه يريد تشكيل وزارته، بقدر ما هو رد فعل على عدم اكتراث هذه الاحزاب بما يجري في الشارع، كما لو أنه لم يقتل حوالي ستمائة انسان، ولم يصب المئات بجروح، ولم يتضرر الآلاف من الناس بسبب فقدان الامن والاستقرار طيلة الاشهر الماضية.

ثمة سببان – من بين اسباب- تدفع المتظاهرين الى الرفض الدائم؛ بعض منها يعود اليهم كأفراد في المجتمع، والبعض الآخر الى الطبقة السياسية الحاكمة:

السبب الأول: الشعور العميق بالقوة والمنعة في ظل شعار الرفض لهذا السياسي او ذاك، او إطلاق "كلا" لأي أمر ما، بدعوى أن "بلى" تعبر عن الرضوخ والقبول بالأمر الواقع، فما أنتجته سياسات الاحزاب الحاكمة طيلة السنوات الماضية، وتحت شعارات ووعود مسعولة، عمّقت الشعور بالضِعة والهوان لدى معظم افراد المجتمع العراقي –إن لم نقل جميعهم- وأن الساسة عملوا على استغفالهم وسرقتهم في وضح النهار، لذا فهم يرفضون ليحققوا ذواتهم، وبقوة، في الشارع تحدياً لإرادات الساسة في البرلمان والحكومة.

السبب الثاني: الخوف من المجهول في ظل عجز مريع من الطبقة السياسية الحاكمة لبلورة رؤية سياسية واقتصادية واضحة لمستقبل البلاد، لاسيما وأن لا شيء ملموس لوضع حد للمحاصصة السياسية والطائفية التي تمثل بذرة الفساد والازمات برمتها، وهذا ما يجعل الرافضون مؤمنون برفضهم أمام رؤية ظلامية لا بصيص أمل فيها مع استمرار الوضع السياسي الخاطئ.

ولكن! هل يعني كل هذا أن يتحول الرفض الى ثقافة عامة في العراق؟

طالما دعا علماء النفس الى نشر ثقافة "نعم" واستبعاد "لا" من حياة الانسان في مسيرته نحو التغيير والتطوير من خلال تنمية الروح الايجابية وبعث الأمل وتعزيز الثقة في النفوس، فمن أبسط عمل في حياة الانسان، الى أكبره، كأن يكون اعتلاء مراقي العلم، وتحقيق منجزات اقتصادية وعلمية، او الانتصار على عدوان خارجي، لن يكون ثمة مجالاً النفي والرفض وكل ما يدعو الى السلبية والانطواء، ولعل من نافلة القول الاستشهاد بما جاء في محاضرة للفقيه آية الله السيد محمد رضا الشيرازي –قدس سره- بأن "كلمة لا، لا تمت الى البناء الحضاري بصلة".

فحتى نحصل على كامل النتائج من حراكنا الجماهيري واحتجاجاتنا الواسعة، يجدر بنا التحرك على مسارين -على الأقل- لتحويل "لا" المنفعلة الى "بلى" واعية للأخذ بزمام المبادرة والتأثير الحقيقي على الاوضاع السياسية في العراق:

المسار الأول: ينطلق من ذات الفرد عندما يوطن نفسه على الصبر وطول الأناة وسعة الصدر مصحوباً بالعمل الدؤوب والنشاط المعارض لتقويم الانحراف، فحتى النظريات الداعية الى الايجابية و زراعة الأمل في النفوس، لن تنجح إلا بإرادة ذاتية خالصة، واستقرار نفسي تام للنظر الى الأمور بشكل صحيح بعيداً عن الانفعال والاستفزازات وإثارة المشاعر.

المسار الثاني: ويتعلق بالواقع الخارجي، حيث الجماعات الناشطة في ساحات التظاهر مدعوة اليوم الى وقفة تأمل للواقع وما تحقق منذ اربعة أشهر، ثم استشراف المستقبل وفق رؤية تعبر عن المصلحة العامة للخروج بمواقف محددة من النظام السياسي القائم، ولتكن فترة إعادة قراءة الشعارات بنظرة واقعية جديدة، بعد تحقيق مطالب اساسية مثل؛ تغيير قانون الانتخابات، واستقالة الحكومة المتهمة بالفشل، وإعادة النظر في الشعارات التي تعود الى الايام الاولى بتغيير النظام السياسي في العراق برمته، مع علم الجميع بانه نظام سياسي تمت صياغته خارج العراق، ولم يأت لتلبية حاجات وطموحات العراق وشعبه.

ومهما تكون مرارة الواقع، واستغلال الفاسدين في ظل هذا الواقع، فان تعميم الثقافة الايجابية، والرؤية الواقعية للأمور من شأنها ان تضع هؤلاء الفاسدين أمام واقع جديد تجبرهم على تغيير سلوكهم، او الانصياع قهراً لمطالب الجماهير حفاظاً على مواقعهم لان الخطاب سيكون جماهيرياً عاماً وليس صادراً من فئة معينة، وبدلاً من أن تكون كلمة "لا" لهذا او ذاك، محدودة بفئة صغيرة تعتقد بجدوائيتها، فان كلمة "بلى" للحلول والبدائل، ستكون رسالة الغالبية العظمى من الجماهير، وهي الاغلبية الصامتة التي ستكون الناطقة بصوت عال وضاغط على رجال الدولة.

اضف تعليق