التربية على التفاهم والتعايش وصولا إلى الوحدة، تعتبر من ضرورات المرحلة، واحد الروافع الأساسية للخروج من مآلات التطورات السلبية التي تجري على أكثر من صعيد في المنطقة العربية والإسلامية. والحديث عن الوحدة في مستوياتها المتعددة، لا يعني الحديث عن كليات أو قوالب فكرية جاهزة، وإنما...
حينما تتصاعد سحب الفتن المتنقلة، ويستسهل الجميع بقيمة الوئام والتعايش والمحافظة على مقتضيات الوحدة بين العرب والمسلمين، تتأكد الحاجة إلى قيم التفاهم والوحدة. فسحب الفتن ينبغي أن لاتدفعنا بوعي أو بدون وعي، للانخراط في مشروع تمزيق الأمة وتجزئة أوطاننا ومجتمعاتنا. وإنما أمام هذه الفتن والصعوبات والمآزق التي تتعرض إليها تجربة العلاقة الداخلية بين مكونات مجتمعاتنا العربية والإسلامية، تتعزز الحاجة إلى ضرورة العمل المتواصل لوقف الانحدار، وتوفير كل أسباب إفشال هذا النسق التمزيقي، والذي يتغذى على الكثير من المقولات والممارسات.
من هنا فان التربية على التفاهم والتعايش وصولا إلى الوحدة، تعتبر من ضرورات المرحلة، واحد الروافع الأساسية للخروج من مآلات التطورات السلبية التي تجري على أكثر من صعيد في المنطقة العربية والإسلامية.
والحديث عن الوحدة في مستوياتها المتعددة، لا يعني الحديث عن كليات أو قوالب فكرية جاهزة، وإنما هو حديث عن مسار اجتماعي وسياسي وحضاري، يتجه بقوة ويندفع بحماس إلى التشكل وفق السياقات الإسلامية الحضارية.
ولو تأملنا في النصوص الإسلامية التأسيسية نجد أن الباري عز وجل قرن وحدة الأمة بعقيدة التوحيد. إذ قال تعالى {إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون} فالانحراف في العقيدة يفضي إلى الانحراف في إدراك مفهوم الأمة. فالوحدة كمفهوم مجتمعي وسياسي بحاجة دائماً إلى عقيدة سليمة وحية في حالة الوعي والسلوك. لذلك نجد أن هناك علاقة وطيدة بين مفهوم الوسطية ومفهوم الوحدة. إذ أن التطرف بكل صوره وأشكاله لا يصنع وحدة، وإنما يؤسس لكل عوامل التمزق والتفتت والتجزئة.
ويشير إلى هذه المسألة الشيخ محمد مهدي شمس الدين بقوله: (والأمر في وسطية الأمة كالأمر في وحدتها سواء. فالوسطية هي تعبير عن توازن عام وشامل في علاقات الإنسان بمحيطه وبالعالم على مستوى الوعي وعلى مستوى السلوك، وهذا التوازن مرتبط موضوعياً بعقيدة التوحيد من جهة وبوحدة الأمة من جهة أخرى.. وعقيدة التوحيد هي المعيار الذي يحكم حالة التوازن، وأي خلل فيها يحدث خللاً عند الإنسان في وعي موقعه من المجتمع والعالم، ومن ثم يختل التوازن في العلاقات بينه وبين محيطه فتنعدم الوسطية)، والآية الأساس في الوسطية هي قوله تعالى {وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا}.
ومن خلال العديد من التجارب العربية والأجنبية، نرى أن استخدام القوة والقسر والفرض، لا يؤدي إلى الوحدة الحقيقية بين الشعب الواحد أو الشعوب المختلفة. وذلك لأن استخدام القوة، لا يفضي في هذا الإطار، إلا إلى المزيد من اكتناز المشروع الذاتي أو الخاص، ويتحين أصحابه الفرصة السانحة لإنهاء الوحدة المفروضة بقوة الحديد والنار. فالقوة التي استخدمت لإنجاز الوحدة بين شعوب الاتحاد اليوغسلافي السابق، لم تنه الطموحات الذاتية لدى الشعوب، التي استغلت ونهبت ثرواتها وخيراتها تحت يافطة الوحدة بين شعوب الاتحاد.
وإنما جعلتها كامنة ومضمرة، ومع الزمن والقسوة التي استخدمت من قبل أجهزة السلطة اليوغسلافية، تبلورت ونضجت وانتظرت الفرصة المؤاتية للخروج من هذا القيد والأسر. فالوحدة بين الوجودات الاجتماعية والكيانات البشرية، لا يمكن أن تنجز بالفرض والقوة، وأي وحدة تنجز بهذا السبيل فإن مآلها الأخير هو الفشل والتشظي والهروب من كل الأشكال الوحدوية والارتماء في أحضان المشروعات الذاتية الضيقة، كوسيلة من وسائل الدفاع عن الذات لتقليل بعض أخطار الوحدة التي فرضت بالقسر والقوة.
وذلك لأن الوحدات الاجتماعية، التي تفرض بقوة الحديد والنار، تقضي باستخدامها القوة، على كل القيم والمبادئ الضامنة لمشروع التوحيد والوحدة والحافظة على الأخلاقية المطلوبة في هذا الإطار. فالقوة والعسف من وسائل الافتراق بين البشر والكيانات الإنسانية، واستخدامها من أجل التوحيد والجمع لا يؤدي إلا إلى المزيد من التفتت والتشرذم والتشظي. لأنها تزيد النفوس ابتعاداً عن بعضها، وتنفر العقول من البحث عن المشترك ووسائل التعايش والوحدة وتهيئ الأوضاع والظروف للهروب من كل مقتضيات الوحدة ومتطلباتها الاستراتيجية.
فالتجارب الإنسانية جميعها، تقف بقوة ضد كل المشروعات الوحدوية التي تبنى بالقسر والعسف والإرهاب، لأن مردوداتها السلبية والعكسية خطيرة وآثارها البعيدة تزيد من عوامل التفتت والاحتماء بالمشروعات الضيقة، التي تزيد الناس انغلاقاً وتعصباً وبعداً عن أخلاق الوحدة وثقافة التعايش والمشترك الإنساني.
من هنا لابد من القول: أن النواة الأولى لتحقيق مشروع الوحدة العربية والإسلامية، هي تعميق جميع القيم والمبادئ الإنسانية والحضارية، وفسح المجال لجميع المؤسسات والأطر، التي تأخذ على عاتقها نشر قيم احترام التعدد والتنوع، ونسبية الحقيقة والتسامح. لأنه في مثل هذه الأجواء، تتبلور قيم الوحدة الحقيقية وسبلها الحضارية. وبدون هذا العمل سيبقى شعار الوحدة العربية شعاراً أجوفَ، يثير خوف الآخرين، ويزيد من هواجسهم الأمنية والسياسية، ولكن بدون أن يتحول هذا الشعار إلى حقائق ووقائع تملأ كل أوطان العرب وبلدانهم.
الوحدة العربية والإسلامية تتطلب من كل مواطن عربي ومسلم، أن يبدأ من واقعه ومحيطه في غرس حقائق ووقائع الاتحاد، حتى تنمو هذه الحقائق، وتزداد هذه الوقائع، حتى نصل إلى مستوى أن تكون الوحدة حقيقة فعلية قائمة، وليست شعاراً يتغنى به الإنسان ويحلم به، دون أن يكون له نصيب من وقائع العرب وحقائق عصرهم الراهن. والوحدة في المنظور الإسلامي هي جزء من العقيدة والمنظومة القيمية، لذلك لا فصل بين هذا المفهوم وبقية المفاهيم والقيم الإسلامية.
فالإسلام هو نظرية الحياة، والحياة هي تطبيق النظرية، والأمة هي مجال التطبيق وأداته. وإذا تعمقنا أكثر في الفكر الإسلامي فسنجد أن وحدة الأمة هي أحد مظاهر الوحدة العام في الكون التي تستبطن وحدة الحياة والطبيعة، وهي تستبطن وحدة الجنس البشري. فالوحدة على مستوى الأمة ليست هدفاً عاطفياً أو مصلحياً سياسياً، وإنما هي أساس في تكوين الإسلام عقيدة وفكراً ومجتمعاً وحضارة، وحينما ينحسر الوعي بالتوحيد، أو تنقطع العلاقة بين عقيدة التوحيد، وبين وعي الإنسان بذاته ومجتمعه.. تقع التجزئة.. والمطلوب الدائم في كل المجتمعات العربية والإسلامية، هو التربية على التفاهم وضبط التباينات، وبناء حقائق التعايش والوحدة في الفضاء الاجتماعي.وهذا لايتحقق بالرغبات المجردة أو الخطابات الوعظية، وإنما بالعمل المتواصل، والإرادة المستديمة، والوعي العميق بضرورة هذا لخيار على مستوى راهن الأمة ومستقبلها.
اضف تعليق