ان جيل الشباب بتكوينه السيكولوجي المعبّأ بالعنف السياسي والطائفي سيظل يرى ان السلطة تبقى يأخذها الاقوى وليس الاجدر والاكفأ والأنزه، وحتى لو جرى تدريبه على الحوار فأنه سيتحايل عليه الحوار بمكر عراقي جديد سيكون مضرب مثل يضاف لصفات ينفرد بها العراقيون...
اذا اعتمدنا عام (1980) حدّا" فاصلا" بين جيلين من العراقيين بوصفه يؤشر بداية الحروب المتوالية التي شهدها العراقيون وما يزالون يعيشونها وقد دخلوا العام (2008 )، واضفنا لجيل الثمانينيات وما بعدها الاطفال الذين شهدوا بداية الحرب العراقية الايرانية وهم بعمر خمس سنوات، آي المولودين في عام (1975) وما بعده، عندها سينقسم المجتمع العراقي في العام (2020) الى جيلين مختلفين : جيلنا نحن الكبار الذين سنكون في العام الموعود بين من هو خارج الصلاحية وبين من ذهب الى دار حقه، وجيل الشباب الذين سيشكلون الغالبية المطلقة في الشعب العراقي والذين ستكون السلطة بكل مؤسساتها وأمور الناس والوطن بأيديهم.
فكيف سيكون العراقيون في ذلك العام الذي لا تفصلنا عنه سوى اثنتي عشرة سنة ؟.
اتوقع، وهذه نتيجة أستباقية قد تكون صحيحة وقد تكون خاطئة، أن العراقيين في عام (0 202) سيكونون أشرس الشعوب على وجه الأرض وأشدها عنفا" وأكثرها عدم استقرار، وسيعدّهم الجيران أخطر بلد في المنطقة !.
قد يغيض هذا التوقع بعض السياسيين الذين يبّشرون بأن العراق سيكون في العام (2009) مستقرا" ومزدهرا"، وهذا ما نتمناه، مستندين في ذلك الى مبررات يرون لها الارجحية في قراءتهم السياسية، غير ان لي مبرراتي في قراءتي الاجتماعية النفسية اوجزها بالآتي:
نرى نحن السيكولوجيين الاجتماعيين المعنيين بدراسة الشخصية والمجتمع أن الدور الأكبر في تشكيل أو تكوين شخصية الانسان وسلوكه يعود الى طبيعة الأحداث والخبرات التي عاشها في طفولته ومراهقته وشبابه. وأرى أن العشرين سنة الأولى من حياة الانسان يكتمل فيها منظور الفرد نحو نفسه والآخرين والعالم الذي يعيش فيه.
واذا عرفنا بآن المنظور يشبه في عمله مقود السيارة في التحكم بمسارها، يتوضح لدينا أن اختلاف الناس في سلوكهم يعود في واحد من أسبابه الاساسية الى اختلافهم في منظوراتهم. بتبسيط أكثر ان الذي يحمل منظورا" يرى الناس من خلاله انهم عدوانيون وسيئون يتصرف بطريقة مختلفه عن شخص آخر يحمل منظورا" يرى الناس من خلاله انهم مسالمون وطيبون، وهذا المضمون الفكري هو أساس الصراع بين الناس والحروب بين الدول.
ان جيل الشباب العراقي (وعددهم سيزيد على العشرين مليون في العام 2020 وسيكون العراق بأيديهم ) سيمتلكون منظورا" مختلفا" عن اقرانهم الشباب في المنطقة وفي العالم أيضا" لتفردهم بصفات نوجزها بالآتي :
1. انهم الجيل الوحيد في العالم " وربما في تاريخ البشرية " الذي ولّد في حرب ونشأ في حرب ويعيش في حرب على مدى 28 سنة من عمر طفولته ومراهقته وشبابه. ومعروف ان الحروب الكبيرة ينجم عنها : الجريمة بأنواعها والتفكك الأسري والبطالة والفساد والبغاء والفقر والعوز والتشرد والجهل والتخلف.. تلّوث رذائلها أبناء جيل ما بعد الحرب لا سيما اولئك الذين تطحن الحرب اباءهم والذين تتفكك أسرهم ويبقون دون رعاية أو توجيه أو ارشاد أو تعليم.
وأن يعيش الانسان طفولته ومراهقته وشبابه في حروب كارثية متلاحقة ويصل الثلاثين من عمره دون أن يسعفه الواقع بما يخفف عنه معاناته ويخفض لديه قلق المستقبل فان لهذا فعله في تكوينه السيكولوجي وتشكيل منظوره نحو نفسه والآخرين والأحداث والحياة والعالم بشكل عام. ففيما يخص نفسه فأنه يرى أنه خسر أجمل ربع قرن من حياته في قضايا ما كان طرفا" فيها فضلا" عن أنها لم تكن عقلانية أو وطنية " من أجل الوطن ".
وفيما يخص الآخرين فأنه يرى الأكبر منه " جيل الكبار " بين من تمتع في حياته وبين من عاون من كان السبب في مأساته، فيشعر نحوهم بالحيف والحقد والحسد والغيرة. وينظر الى " العالم " كما لو كان عدوا" لأن القوي فيه يعدّه السبب في معاناته وغير القوي فيه لم يهب الى نجدته ويعاونه على محنته. وسيخلص الى نتيجة يجعلها شعارا له هي " الحياة للأقوى ". ونخلص نحن الى القول بأن جيل الشباب العراقيين في العام(2020) سوف لا يتمتعون بالصحة النفسية والمنظور العقلي السليم اللذين يتمتع بهما اقرانهم في زمانهم على صعيد المنطقة والعالم. والخطورة الأكبر ان تكون السلطة حين ذاك بأيديهم.
2. جيش اليتامى
تفيد المواقع الالكترونية والتقارير الصحفية أن عدد الأطفال الأيتام في العراق يبلغ خمسة ملايين وأن الرقم يزداد بمعدل ثمانية أطفال يتيتمون كل يوم بسبب اعمال العنف. هذا يعني أن العراق صار " بلد اليتامى " الأول في العالم، وبهم يفتتح العقد الأول من الألفية الثالثة "مأساة العصر " المنسية في جدول أولويات أعمال الحكومة وفي اهتمامات الدول التي كانت هي الشريك في صنعها.
وفضلا عن هذا " الشعب! " من الأطفال، تحذّر المنظمات الدولية، ومنها اليونسيف، من تدني مستوى الخدمات الخاصة بالأطفال، ووجود مليوني طفل يواجهون صعوبات نمو حقيقي، وأن حياة ملايين الأطفال العراقيين ما تزال مهددة بسبب العنف وسوء التغذية وانقطاع التعليم، اذ ادّى فقط 28%ممن هم بعمر 17 سنة امتحاناتهم في العام (2007)، وأن نسبة من اجتازوا الامتحان النهائي في وسط وجنوب العراق لم تتعد 40%،على ما تذكر هذه المنظمات. وتضيف التقارير ان حوالى 25 الف طفل وعائلاتهم يجبرون كل شهر على الخروج من منازلهم، ووجود 75 الف طفل يعيشون في مخيمات او مساكن مؤقتة، ووجود آلاف الأطفال العراقيين المحتجزين في السجون، وشيوع ظاهرة "أطفال الشوارع " بين مشرّدين ومتسولين ومنحرفين ومزاولين لأعمال خطرة وشاقة مقابل أجور زهيدة وساعات عمل طويلة.
ما يعنينا هنا هو الدلالات الاجتماعية-النفسية الخطيرة لخمسة ملايين طفل يتيم سيشكلون شريحة كبيرة من جيل شباب العام( 2020). فكيف ستكون شخصياتهم ؟ وكيف ستكون علاقتهم بالسلطة وبالآخرين.. المجتمع ؟ وكيف سيكون مستقبل العراق ؟.
قلنا ان منظور الانسان (هو الذي يوجّه السلوك ) يتشكّل لديه من الطفولة. ويشير واقع اليتيم في العراق الى أنه يعيش حياة الفقر والحرمان العاطفي والذل والاحتقار والنبذ، وأفضل ما يحصل عليه هو صدقة الآخرين ومشاعر الشفقة التي هي في محصلتها النفسية والاعتبارية تشعره بالمهانة وجرح الكرامة لاسيما الهدية التي تقدم له من على شاشة التلفزيون.
ان هؤلاء الأطفال حين يصلون مرحلة الشباب سيكونون معبئين بالكراهية والحقد،وستعمل مشاعر النقص والحرمان والبؤس والمظلومية على تفعيل روح الانتقام لديهم ضد السلطة والآخرين لا سيما الأغنياء الذين يدّعون الاسلام ولم يعملوا بما أمرت به آيات قرآنية وأحاديث نبوية تحض على كفالة اليتيم ورعايته سواء ببناء دور للايتام او تبنّي عدد منهم.
وعلى افتراض أن قسما من هؤلاء الأيتام سيكونون في شبابهم أسوياء الشخصية والسلوك، ويمشون في الطريق الصحيح برغم أنهم لم يتلقوا تعليما ولا ارشادا، فان الغالبية المطلقة منهم سيتوزعون بين التمرّد والانحرافات السلوكية بأنواعها. وأظن أن العراقيين سيشهدون بحدود العام( 2020 ) ظهور جيش جديد بأسم ( جيش اليتامى !). ولا استبعد احتمال أن يحكم العراق بحدود العام (2030 ) دكتاتور يتيم.. فكثير من الدكتاتوريين الذين صاروا رؤساء كانوا يتامى!. والأرجح قد يظهر من بين يتامى الحرب العراقية الايرانية الذين يعدّهم بعض السياسيين الحاليين أنهم ليسوا أبناء شهداء.
3. السلطة.. للأقوى
يعد انقلاب بكر صدقي عام ( 1936 ) أول انقلاب عسكري في العراق " وربما في المنطقة " يقص شريط افتتاح الطريق نحو السلطة عبر الانقلابات العسكرية التي توالت تباعا" في العراق الحديث. والذي يميز قادة هذه الانقلابات انهم يمتلكون شعورا" وطنيا" عاليا" غير أنهم يفتقرون الى النضج السياسي، فضلا" عن ان طبيعتهم العسكرية تجعلهم لا يطيقون أمرين، الأول : وجود الآخر الذي له اراء سياسية لا تساير هواهم، والثاني : وجود "رأسين " في القيادة. وكانت وسيلة التعامل مع " الآخر " و "الرأس الثاني " هي التصفية الجسدية. ومن عام( 1936 )الى الآن خسر العراق عشرات الالوف من العقول كانوا ضحايا الصراع على السلطة. ولهذا تولّد لدى الناس كره نفسي للسلطة، بما فيها السلطة الاخيرة التي جاءت بها انتخابات حرة وديمقراطية كانوا يمّنون أنفسهم بأنها ستسعدهم.. فخذلتهم، وصاروا يعضون أصابعهم ندما" على انتخابهم لمن ظنوا يمثلونهم ( وعسى ان يكونوا ادركوا الآن ان الحرية تعني المسؤولية وان ممارستها بانفعال عاطفي تأتيهم بالكوارث ).
ان جيل الشباب بتكوينه السيكولوجي المعبّأ بالعنف السياسي والطائفي سيظل يرى ان السلطة تبقى يأخذها الاقوى وليس الاجدر والاكفأ والأنزه. وحتى لو جرى تدريبه على الحوار فأنه سيتحايل عليه " الحوار " بمكر عراقي جديد سيكون مضرب مثل يضاف لصفات ينفرد بها العراقيون. وسوف لن يتخلص الشباب من علّة مزمنة مصابة بها السلطة في العراق، هي أن كل من يستلم امورها يعمل بشعار " الاقربون أولى... " حتى وان كانوا لا يفهمون.
أخيرا، ان دورنا، نحن السيكولوجين الاجتماعيين، يشبه دور راصدي الاعاصير.. ينذرون الناس ليتدبروا أمورهم ويحتاطوا لها. وما نحذّر منه أشدّ ضررا من أقوى الأعاصير، الأمر الذي يدعو الدولة ومؤسساتها أن تبدأ من الآن باتخاذ التدابير الجادة والمخلصة لتوقي الكارثة.. وستنجح ان عملت بنوايا صادقة، فالجميل في العراقيين أنهم يضعون في القلب من يحبهم بصدق، فيسعد الجميع في عراق بهي يمتلك كل أسباب الرفاهية..لشعبه في الداخل ولملايينه المغتربين في الشتات.
اضف تعليق