الفوضى التي تخلقها القوى السياسية المتنفذة في العراق بنفسها او بمساعدة قوى خارجية لن تقود الى تقسيم البلد وانما ستزيد من تراجعه وتؤخر تنميته، وخسارة شعبه في الأرواح والأموال، وتعيد انتاج مقولة حاجة العراق الى الحكومة المستبدة والقائد القوي، وستُنهي حلمه الديمقراطي، وهذا قطعا ما...
بعد التغريدة التي أطلقها يوم أمس (الخامس من أيلول –سبتمبر 2019) رجل الدين الشيعي القوي مقتدى الصدر زعيم التيار الصدري في العراق ومؤسس كتلة سائرون في البرلمان ضد الحكومة واتهامه إياها بتحولها من حكومة تحكم بالقانون الى حكومة تحكم بالشغب، وتهديده بالبراءة منها، يكون رئيس الوزراء العراقي السيد عادل عبد المهدي قد خسر اقوى حلفائه الداعمين له، مما يفتح التكهنات والشك حول مقدرة حكومته على إتمام دورتها الحالية.
ان طبيعة التطورات الإقليمية والمحلية تنذر بأن الحديث عن اسقاط الحكومة وسحب الثقة من رئيسها لم تعد مجرد بالونات إعلامية، بل هو مدار حديث جدي في دهاليز القوى السياسية العراقية، ولم يعد السؤال هل ستسقط الحكومة، وانما متى ستسقط؟
ولكن سقوط الحكومة بحد ذاته ليس هو الحلقة الأصعب في تطورات الاحداث القادمة، انما الحلقة الأكثر تعقيدا، والسؤال الأصعب في الإجابة عليه هو ماذا بعد مرحلة عادل عبد المهدي؟
لقد ولدت الحكومة الحالية خارج سياق الاستحقاقات الانتخابية نتيجة عجز القوى السياسية عن الاتفاق فيما بينها على حل يرضي جميع الأطراف، والظروف التي افرزتها لم تتغير، بل زادت تعقيدا وتأزما، لاسيما بعد بروز الانقسامات الواضحة في مواقف الكتل السياسية القوية إزاء ملفات عديدة مثل: ملف الحشد الشعبي، ملف العلاقة بين المركز واقليم كوردستان، ملف تواجد التحالف الدولي على الأرض العراقية، ملف الصراع الأمريكي-الإيراني، ملف الحدود البرية والبحرية مع دول الجوار، ملف محاربة الفساد، ملف التنمية الاقتصادية وغيرها من الملفات التي أظهرت غيابا مؤسفا في وحدة القرار السيادي العراقي، وتعدد ولاءات القوى المشاركة في الحكومة.
وما زاد الأمور تعقيدا وارباكا هو الموقف التصالحي المبالغ فيه من قبل الحكومة إزاء القوى التي اوجدتها، نعم لم يكن يتوقع المراقبون من السيد عادل عبد المهدي اكثر مما قدمه فعلا، وكان معظمهم يرى ان هذه الحكومة هي حكومة اعلان هدنة بين الفرقاء السياسيين وليست حكومة مطلقة العنان لتنفيذ وعودها وإنجاز برنامجها المعلن، ومع ذلك فإن أداء الحكومة جاء مخيبا للآمال اكثر من اللازم، فالسيد عبد المهدي لم يتمتع بالكاريزما اللازمة للتخلص من القيود والضغوط الصعبة المفروضة عليه؛ لأن اتفاق تشكيل الحكومة المبرم بينه وبين القوى صاحبة النفوذ في العراق لم يكن حسن النية ويسمح له بالتمتع بصلاحياته الدستورية كاملة، كما يبدو ان شخصيته وعمره لم يساعداه على تجاوز هذه القوى ومد الجسور مع الشارع الشعبي الناقم لاستثماره كقوة بديلة مؤيدة توظف في تخفيف سطوة القوى السياسية واحراجها امام قواعدها وداعميها، وكانت النتيجة ان حكومته صارت بين نارين: نار قوى طامعة ومشاكسة، ونار شارع شعبي منتفض ومنتقد وراغب بالتغيير.
مع ذلك ستكون مرحلة ما بعد سقوط حكومة عادل عبد المهدي-في حال تحقق هذا المشهد- صعبة جدا على القوى السياسية والشعب العراقي معا، فسقوط الحكومة سيعني العودة الى مربع ما قبل تشكيلها بظروف اصعب واعقد واكثر استفزازا، وسيربك مشاريع الدولة والخدمات المقدمة لشعبها مما يزيد من نقمة الشارع وهيجانه، وسيفتح الأبواب مشرعة امام القوى الإقليمية والدولية لتصفية حساباتها على الأرض العراقية مع جود قوى داخلية فاعلة ومستعدة لدعم اطراف خارجية ولو على حساب مصلحة العراق وشعبه... كل هذه النتائج سترسخ أكثر هشاشة مؤسسات الدولة وتدعم مافيات الفساد الراغبة بالانقضاض على ما تبقى من الغنائم، وستكون وحدة وسيادة العراق محل شك ومطروحة للنقاش بقوة اكثر.
ليست مشكلة العراق اليوم بالسيد عادل عبد المهدي كشخص، انما مشكلته الحقيقية في عدم وجود مشروع وطني جامع تلتف حوله القوى السياسية، فالظاهر الدستوري للدولة شيء، والواقع التنفيذي لها شيء آخر، اذ لا توجد رغبة لدى معظم اللاعبين الأساسيين في احترام القانون وسيادة الدولة، ويرون انهم فوق القانون والسيادة، بل انهم أصحاب السيادة بأنفسهم واحزابهم وولاءاتهم، كما لا زالت نظرة الشريك الكوردي الى الارتباط بالعراق قائمة على انها مرحلة انتقالية توظف للحصول على مزيد من المغانم والمكاسب لتأسيس الدولة الكوردية المستقلة- قطعا هذه أحلام يقظة- في مرحلة ما، وتدار اللعبة السياسية على أساس اغتنام السلطة لمزيد من الثروة والنفوذ لا على أساس توظيفها لبناء الدولة. وفي ظل هكذا واقع، ستكون اية حكومة مشلولة كليا او جزئيا، وستبقى برامجها ووعودها وقراراتها مجرد حبر على ورق.
ان الفوضى التي تخلقها القوى السياسية المتنفذة في العراق بنفسها او بمساعدة قوى خارجية لن تقود الى تقسيم البلد-حتى لو رغب البعض بذلك-وانما ستزيد من تراجعه وتؤخر تنميته، وخسارة شعبه في الأرواح والأموال، وتعيد انتاج مقولة حاجة العراق الى الحكومة المستبدة والقائد القوي، وستُنهي حلمه الديمقراطي، وهذا قطعا ما يأمله ويدفع باتجاهه جميع جيران العراق الذين يخشون على شرعيتهم ويرغبون بالتمسك بعروشهم الى الابد.
واستعادة شرعية الدكتاتورية في العقل السياسي العراقي لن يواجه مشكلة كبيرة ابدا، فالدكتاتورية متغلغلة ونافذة بقوة في الوجدان والتاريخ العراقي، وهي الحل الأمثل عندما تعجز جميع الحلول عن جلب الوحدة والأمان والانتظام في نظر معظم العراقيين، كونها ايسر الحلول، وأقلها ارهاقا للعقل والوجدان، اذ من الايسر على شعب خذلته قواه السياسية، وعجز عن تغيير ظروفه الى الأفضل، وناقم على حياة لا يريد استمرارها ان يركن الى دكتاتور يستعيض عنه بالانتقام من كل الأوضاع التي يعيشها، ويتخلص من خلاله من أي وخز ضمير ناتج عن شعوره بالفشل في تحقيق حلمه بعيش حياة أفضل.
خلاصة القول: متى تدرك القوى السياسية المهيمنة في العراق ان استمرارها بنمط تفكيرها وسلوكها الحاضر يجعلها تحفر قبرها بأيديها، وتدمر مستقبلها ومستقبل الأجيال القادمة، ولا عذر لها في ذلك، بل لن تجد جميعها الأمان والسلام والكرامة عندما تحل الكارثة.
فالعراق بلد غني جدا، وشعبه شعبا مميزا ومتلهفا نحو استعادة مجده الحضاري بقوة، وحباه الله بنعم في الجغرافيا يحسده عليها الجميع، ويمتلك كل المؤهلات اللازمة ليكون القلب النابض ومركز الاشعاع المؤثر إيجابيا في الشرق الأوسط والعالم الإسلامي، الا انه وللأسف لا يمتلك قيادات سياسية تقدر قيمته، وتستطيع استثمار مصادر قوته الكامنة لخير شعبها والإنسانية، ومتى ما وجدت هكذا قيادات ستكون لبلدها تأثيرات مذهلة على مستقبل بلدها والعالم، وعندها لن تصبح المسائل المرتبطة بتشكيل الحكومات واختيار الشخصيات مشكلة معقدة لدى العراقيين، بل ستكون أحلام قياداتهم وشعبهم اكبر من هذه المسائل الإجرائية الصغيرة.
اضف تعليق