القاسم المشترك للعدو، هو استباحة السيادة العراقية بالدرجة الاولى، هذا اضافة الى ردود الفعل الجماهيرية الغائبة في التطورات الاخيرة، كأن شيئاً لم يكن، وهذا ايضاً؛ مثير للتساؤل في نظرة الرأي العام العراقي الى مفردة الدولة العراقية، وهو ما يجب ان يلتفت اليه كثيراً اصحاب الشأن في الدولة العراقية...
حسناً قال أحد المحللين الاستراتيجيين تختلف اميركا مع ايران في مناطق الصراع كافة بالمنطقة والعالم، لكنهما يلتقيان ويتفقان في العراق فقط، ولماذا العراق "الجديد"؟ انه سؤال طويل عريض لسنا بوارد الخوض في الاجابة عنه، إنما الذي يشغل بال أي انسان يعيش تحت رحمة الحبل المشدود بين طهران وواشنطن، هو كيفية الخروج بسلام وبأقل الخسائر من صراع يعيد الى الذاكرة؛ الحروب بالوكالة في شتى بقاع العالم خلال ثمانينات القرن الماضي.
ثمة ظاهرة أدرك الكثير كنهها في العراق؛ تدهور الوضع الأمني في العراق بموازاة توافق ايراني –اميركي على ملف ما، وهذا بدأ منذ الايام الاولى من تغيير النظام السياسي في العراق عام 2003، وحصول التوافق الاميركي – الايراني على صناعة واقع سياسي جديد بخلاف ما كان عليه في عهد صدام، حيث تولّت اميركا تدمير القدرات العسكرية والمؤسسات الامنية، فيما تولّت ايران ملف الديمقراطية والدفع باتجاه اجراء انتخابات برلمانية بحضور طيف سياسي واسع من الاحزاب السياسية المتناغمة في توجهاتها مع ايران؛ وتحديداً الاحزاب الشيعية والاحزاب الكردية، ممن تصفهم ايران بـ "الاصدقاء".
وحتى وقت قريب، وتحديداً قبل التصعيد الأمني الذي استهدف الحشد الشعبي في مناطق مختلفة من العراق، كانت الاوضاع الامنية مستقرة بشكل ملفت للنظر في العراق، والسبب يعود الى التصعيد السياسي الملفت للنظر ايضاً بين الولايات المتحدة، وبشخص الرئيس المثير؛ دونالد ترامب، وبين ايران الطامحة لمزيد من القوة والاقتدار في المنطقة سياسياً وعسكرياً، فقد أوغل ترامب في ايران العقوبات الاقتصادية القاسية، على خلفية الملف النووي الايراني، و قراره انسحاب بلاده من الاتفاق النووي المبرم بين ايران وبين الدول الغربية الكبرى في فيينا عام 2015، بحجة لم تكن مقنعة للمراقبين، بأن هذا الاتفاق يمكّن ايران من انتاج السلاح النووي، وربما يعيد ترامب الى الذاكرة، ما فعله سلفه الجمهوري؛ جورج بوش عندما أصرّ على أدعائه الكاذب بوجود اسلحة دمار شامل لدى صدام لاتخاذه مبرراً لشن الحرب والاطاحة به.
وما أن شهد التوتر في ملف العلاقات الايرانية – الاميركية، هدوءاً باتجاه التسوية بفضل الوساطة الفرنسية حالياً، حتى شهدنا ألسنة النيران تلتهم مستوعات الذخيرة والسلاح التابعة للحشد الشعبي في مناطق مختلفة من العراق، وهجمات صاروخية من طائرات اميركية مسيّرة لاهداف في الحشد الشعبي.
ردود الفعل او المواقف الصادرة من العراق إزاء كل ما حصل من تجاوزات واستهدافات خطيرة على أرض ورجالات العراق، لم يرتقِ بأي حال من الاحوال الى مستوى السيادة المصونة، وأن العراق دولة مستقلة، لها قرارها، ومصالحها، ورؤيتها في العلاقات مع الاطراف الاقليمية والدولية.
فالى جانب الموقف المتزلزل للحكومة العراقية إزاء هذه الانتهاكات، جاء رد فعل ابو مهدي المهندس نائب رئيس هيئة الحشد الشعبي، الذي تناغم بشكل غير مقصود مع النظرة النمطية التي يسعى ترامب لتكريسها في العالم، بأن الحشد يمثل الذراع العسكري والشرعي لايران لتهديد المصالح الاميركية في العراق.
و من الطبيعي أن يحمّل المهندس الولايات المتحدة واسرائيل المسؤولية في قصف مقرات الحشد قرب الحدود السورية، ويهدد واشنطن "بعدم السكوت عن ذلك"، لان الاستهداف جاء دقيقاً في قضاء القائم المتاخم للحدود مع سوريا وأسفر عن استشهاد ثلاثة من مقاتلي الحشد، بيد أن هذا الرد تزامن مع تصريحات واضحة من المسؤولين الاميركيين بأنهم لن يسمحوا بتغوّل الوجود العسكري الايراني في العراقي، كما حذروا من الامر نفسه فيما يتعلق بسوريا.
ويشير المراقبون الى حملة تصفية الحسابات الضرورية بين واشنطن وطهران فيما يتعلق بالوجود العسكري في المحيط الاقليمي، علماً أن واشنطن كانت المبادرة لسيناريو الاستفزاز باحتجاز ناقلة النفط الايرانية في مضيق جبل طارق، والمتجهة الى سوريا بحجة انتهاكها للعقوبات الاوربية على سوريا، وهو ما فنده باحث سياسي من أن العقوبات متقصرة على الدول الاوربية، ولا شأن لايران بها، الامر الذي فتح المجال امام الاخيرة لأن تختبر قوتها وهيمنتها على مياه الخليج وتحديداً مضيق هرمز بسلسلة من الاحتجازات لسفن وناقلات نفط على قاعدة الرد بالمثل، ولن تكن عمليات القصف الاسرائيلي بطائرات مسيّرة كالذي حصل في العراق، لمكاتب حزب الله في بيروت، بعيدة عن تصفية الحسابات هذه.
الموقف من كل هذا في العراق –على الاقل- يجب ان يأتي في إطار دولة العراق، وليس ضمن أطر خاصة، مهما كانت هويتها وحجمها، فالهجوم على مسعكرات او مقرات عسكرية داخل العراق، يستوجب رداً كالذي حصل مع الهجوم العسكري الذي شنّه عناصر داعش عام 2014، من حيث القضية في إطارها العام، مع فارق التفاصيل في السيناريوهات العسكرية، فالشهداء الثلاثة او أكثر، والمصابين من القصف الصاروخي لمواقع الحشد الشعبي، هو بنفس القيمة المعنوية لدينا، مع الشهداء الذين سقطوا في الحرب مع عناصر داعش، فالقاسم المشترك للعدو، هو استباحة السيادة العراقية بالدرجة الاولى، هذا اضافة الى ردود الفعل الجماهيرية الغائبة في التطورات الاخيرة، كأن شيئاً لم يكن، وهذا ايضاً؛ مثير للتساؤل في نظرة الرأي العام العراقي الى مفردة "الدولة العراقية"، وهو ما يجب ان يلتفت اليه كثيراً اصحاب الشأن في الدولة العراقية، وحتى المعنيين بالشأن الثقافي في البلاد.
ان العراق سيبقى المغلوب والخاسر حسب الحاجة الى أمد بعيد، ما لم يتغير في منهجه السياسي وطريقة تعامله مع الاحداث المحيطة به، ليتمكن من ثمّ لتحقيق التغيير المطلوب داخلياً بما يخدم الناس ويعيد الاستقرار والرفاهية الى البلاد.
مثالاً بسيطاً نسوقه في الختام لبلورة الصورة أكثر؛ نقل أحد الدبلوماسيين الايرانيين عن مجريات المحادثات الدبلوماسية التي أجرتها ايران مع الولايات المتحدة في بغداد في عهد السيد المالكي، وقال: وصلتنا رسالة من السيد الخامنئي بالطلب من الجانب الاميركي بأن نشرك العراقيين في المحادثات الثنائية، فجاء الرفض سريعاً، ولسان حال الاميركيين؛ أن العراق أو العراقيين، ما هم إلا جسر نأتي عليه ونجلس للتفاوض، وليس كما تصوّر البعض في تلك الفترة بأنهم اصبحوا "وسطاء" بين بلدين كبيرين متخاصمين!.
اضف تعليق