يبقى مستقبل العلاقات الاميركية العراقية. الاصل ان على الولايات المتحدة دينا لصالح العراق، فهي مسؤولة، على الاقل اخلاقيا، عن اعادة اعماره، كما هي مسؤولة عن امنه وسلامة اجوائه وأراضيه بموجب اتفاقية الاطار الإستراتيجي. فاذا اخلت الولايات المتحدة بهذه الالتزامات الاخلاقية والسياسية فمن الطبيعي ان يعيد العراق النظر بهذه العلاقات...
بالنسبة لي، يكفيني خبر صحيفة "نيويورك تايمز" بان اسرائيل شنت غارة جوية على معسكر للحشد الشعبي للتصديق ان الواقعة حصلت. لا يعني هذا انني اشكك بالرواية العراقية عن الحادث، لكن الرواية الصحفية الاميركية تكفي عندي للاثبات، سندا ودلالةً. فصحيفة "نيويورك تايمز" من الصحف العالمية الرصينة التي يمكن الوثوق بصدق رواياتها، من جهة، ولا توجد مصلحة لها لفبركة خبر كاذب او للترويج له من جهة ثانية.
ماذا في المعسكر؟ موضوع قابل للنقاش. ويتسع لعدد من التأويلات، لكن هذا لا يمثل جوهر الموضوع. لو كانت المنطقة التي تعرضت للغارة الاسرائيلية مخزنا للغذاء او مخزنا للاسلحة، فالامر من حيث الجوهر واحد. والجوهر هو: ان طائرات "معادية" وليست "صديقة" اخترقت الاجواء العراقية، وشنت غارة على موقع في الاقليم السيادي للدولة العراقية. وان هذه الغارة تمت من قبل دولة صديقة لدولة اخرى، هي الولايات المتحدة التي تربطها بالعراق اتفاقية اطار ستراتيجي تشبه بعض نصوصها اتفاقيات الدفاع المشترك.
وهذه الاتفاقية تفرض على الولايات المتحدة التزامات ازاء العراق تشبه ما تلتزم به مع اليابان. ماحدث هو بكلمات قليلة انتهاك لسيادة الدولة العراقية على اجوائها. لم تتمكن الدولة العراقية من التصدي لهذا العدوان جويا، ولم تستطع الدفاع عن نفسها ارضيا، ولم تقم الدولة الحليفة للعراق اي الولايات المتحدة بردع العدوان قبل وقوعه، ولا تصرفت بشيء يحمي سيادة الدولة العراقية بعد وقوعه.
كل هذا يضع السيادة العراقية على المحك. وهذا امر حين يحصل سيكون له اثار وتبعات وخيمة فيما يتعلق بسياسة العراق الخارجية وتحالفاته الدولية. الحادث يضع على طاولة البحث والتشريح الامورَ التالية:
١. قدرة العراق على الدفاع عن نفسه.
٢. موقع العراق في معادلة الصراع الاسرائيلي الايراني.
٣. موقع العراق في خارطة التحالف الاميركي الاسرائيلي.
٤. مستقبل العلاقات العراقية الاميركية.
٥. مستقبل الموقف العراقي من اسرائيل.
لا نقاش في القول ان العراق اثبت ضعفه، او ان الحادث كشف ضعف العراق. وهذه مشكلة كبيرة تعبر عن جانب اخر من جوانب ازمة الدولة العراقية في شكلها الراهن.
في النقطة الثانية، تدخل الدول عادة في الصراعات او التحالفات الثنائية او لا تدخل طبقا لرؤيتها لمصالحها. وهذا يشمل النقطة الثانية والثالثة. دخلت الدولة العثمانية طرفا في الصراعات الاوروبية الى جانب المانيا في الحرب العالمية الاولى فخسرت وجودها بعد هزيمة المانيا العسكرية. وهذا يعني ان الموقف لم يكن محسوبا او مدروسا بدقة.
الموقف في النقطة الثالثة مرتبط بمسالة اخرى لم اذكرها حتى الان وهي "الصراع" العربي-الاسرائيلي. وصورة هذا الصراع لم تعد نفسها على ما كانت عليه في النصف الاول من القرن الماضي. فقد تغيرت الصورة جوهريا بعد معاهدة كامب ديفيد التي وقعها الرئيس المصري الاسبق انور السادات مع الكيان الصهيوني في ١٧ ايلول من عام ١٩٧٨. وهذا يشمل الموقف من النقطة الخامسة ايضا. لكن بالتأكيد ان "تحالف" الدولة العراقية مع الولايات المتحدة لا يفرض عليها ان تتحالف مع اسرائيل، او تسكت على عدوانها، ولا ينبغي ان يُسمح للولايات المتحدة ان تملي على العراق موقفه في هذا الشأن.
يبقى مستقبل العلاقات الاميركية العراقية. الاصل ان على الولايات المتحدة دينا لصالح العراق، فهي مسؤولة، على الاقل اخلاقيا، عن اعادة اعماره، كما هي مسؤولة عن امنه وسلامة اجوائه وأراضيه بموجب اتفاقية الاطار الإستراتيجي. فاذا اخلت الولايات المتحدة بهذه الالتزامات الاخلاقية والسياسية فمن الطبيعي ان يعيد العراق النظر بهذه العلاقات.
لا يمكن حسم كل هذه النقاط في مقال انما هي بحاجة الى دراسة وتحليل معمقين، مازلنا نفتقدهما!.
اضف تعليق