لقد كانت تلك الأسئلة صادمة ومحرجة للقيادات الصهيونية التي ساومت على حساب الضحايا الأبرياء الذين أرسلوا إلى أفران الموت مقابل إرسال بضع عشرات أو مئات من المتموّلين والقيادات الصهيونية إلى فلسطين، وهو الأمر الذي يكشف الأساليب غير الأخلاقية التي مارستها الصهيونية خلال الاحتلال النازي ودورها المتواطئ في المحرقة اليهودية...
أثار كتاب حنّة أرندت "أيخمان في القدس : تقرير حول تفاهة الشر" ردود فعل حادة وغير عقلانية وعنيفة ضد الكاتبة والكتاب وذلك منذ صدوره قبل نحو ستة عقود من الزمان لكن الجدل بأبعاده القانونية والسياسية والأخلاقية ما يزال قائماً ومستمراً. الكتاب يتعلّق بمحاكمة النازي آيخمان الذي اختطفته "إسرائيل" في العام 1960 من الأرجنتين بمخالفة صريحة لقواعد القانون الدولي ومبادئ السيادة ، لاتهامه بارتكاب جرائم ضد الإنسانية وجرائم إبادة وجرائم حرب خلال الحرب العالمية الثانية، ولاسيّما مساهمته في المذابح ضد اليهود وهو ما عُرف بـ " المحرقة اليهودية".
وكان آيخمان قد اختفى عن الأنظار وعاش بعزلة كاملة بعد أن فرّ إلى الأرجنتين عقب انتحار هتلر، ولكن الموساد "الإسرائيلي" توصّل إليه بعد 15 وقام باختطافه بإشراف مدير الموساد آنذاك إيسار هرئيل. وقد حاول الصهاينة أن " يبثّوا" هذا الخبر "المفرح" عبر محطة الإذاعة "الإسرائيلية" بعد أن اقتربت الطائرة لتحط في مطار بن غوريون، وجاء فيه إن جلاد الشعب "الإسرائيلي" ايخمان سيكون في قبضة العدالة وتتم محاكمته في "إسرائيل" لينال جزاءه العادل . ولعلّ السبب الحقيقي لمهاجمة آرنت هو قولها أن الصهيونية تجاوزت الظروف التي انبثقت منها وهي تغامر بالتحوّل إلى " شبح حي وسط أنقاض زمننا المعاصر" بالمقارنة مع قوميات القرن التاسع عشر، علماً بأن أرندت هي نفسها كانت من أتباع الزعيم الصهيوني الألماني كيرت منفيلد "منظر الصهيونية الما بعد اندماجية" الذي دعا إلى مساومة تاريخية مع الفلسطينيين من خلال رسم الحدود، بتأسيس دولة مشتركة علمانية مزدوجة القومية.
وقد استشرفت آرندت صعود تيار شعبوي ديني متشدّد بين "الإسرائيليين"، الأمر الذي لا بدّمن مشاركة الفلسطينيين. أما "تفاهة الشر" في نظر آرندت فتعود لعدم إيمانها بالنظريات الشمولية والممارسات الاستبدادية، والشر وفقاً لها لا يحتاج إلى "وحوش شيطانية ، بل إلى ما هو أخطر وأدهى - الحمقى والأغبياء"، لقد شعرت آرندت بواجبها كصحافية وأكاديمية وناقدة اجتماعية ولاجئة وشاهدة وناجية من المحرقة أن تدوّن شهادتها في محاكمة آيخمان "الجزّار النازي"،وهكذا أقنعت مؤسسة روكفلر بتغطية المحاكمة، وقد صوّرت أيخمان كمجرم بيروقراطي "مجتهد" وتافه في آن، بقدر ما هو إنسان عادي وشخصية لا طعم لها، وهو أشبه "بشبح داخل سائل روحاني" أكثر منه شرير، بقدر ما هو مخيف ومروّع، واستندت إلى عجزه في التفكير والكلام المتماسك داخل المحكمة، وهو لم يجسّد الكره أو الجنون أو التعطش المتوثب للدم، بل شيئاً أسوأ بكثير حيث جسّد الطبقية المتخفية للشر النازي داخل نظام مغلق تديره مجموعة من المجرمين المرضى ويهدف إلى نزع الشخصية الإنسانية عن ضحاياه. وتعتقد آرندت أن الشر فقد طبيعته المميّزة التي عرفها الناس، وذلك حين أعاد النازيون تعريفه "كقيمة مدنية جديدة" وضمن هذا العالم المقلوب بدا أن آيخمان لم يكن واعياً لارتكابه أي شرّ مثله مثل أي شرير يعتقد أن ما يقوم به هو عين الصواب، خصوصاً بتخريب أسس القوانين الأخلاقية، وهكذا كان آيخمان طموحاً ومتشوقاً للترقي في السلّم الوظيفي... فلم يبد أي تفكير متميّز يختصّ به، بل كانت "تفاهته" هي المعبر الذي أهلّه ليصبح واحداً من أعظم المجرمين في العالم، ومثل هذا الاستنتاج الذي توصلت إليه ينطبق على جميع الأنظمة الشمولية " التوتاليتارية".
لقد اعتبرت أرندت المحكمة سياسية نظمها بن غوريون للبرهنة على أن المحرقة أكبر مجزرة لا سامية في التاريخ، فالذين يرتكبون الجرائم ليسوا بالضرورة وحوشاً أو شياطين ، مع ملاحظة انتقادية للمجالس اليهودية التي لم تبدي التنبّه الكافي لمواجهة المخطط النازي، وقد ظنوا أنهم يخدمون مصالح اليهود، وانتهى بهم الأمر إلى تسهيل مهمة النازيين في إبادة أكبر عدد من اليهود بأقل جهد إداري وأقل كلفة ممكنة، في حين كان عليهم نُصح الضحايا بالهروب والاختفاء وليس تسليم أنفسهم لآلة الذبح.
ولعلّ مثل هذا الاستنتاج المهم تناوله أيغون ردليخ في يومياته التي قمنا بإعدادها وترجمتها من الأصل التشيكي بعنوان "مذكرات صهيوني" (1985) والذي يكشف بشكل مباشر وغير مباشر أن هناك تواطؤاً بين القيادات الصهيونية، بما فيها منظمة مكاباي هاكير وبين النازية، وهو ما عكسته المذكرات في معكسر أوشفيتز البولوني 1940-1944 والتي عثر عليها في سقف بإحدى البيوت الحجرية في مدينة غودوالدوف التشيكية بعد 23 عاماً من إعدام ردليخ نفسه، ومثل هذه الاتهامات راجت حول تواطؤ زعماء المجالس اليهودية مع المخططات النازية في "إسرائيل" ذاتها وفي خارجها حتى قبل صدور كتاب أرندت.
لقد كانت تلك الأسئلة صادمة ومحرجة للقيادات الصهيونية التي ساومت على حساب الضحايا الأبرياء الذين أرسلوا إلى أفران الموت مقابل إرسال بضع عشرات أو مئات من المتموّلين والقيادات الصهيونية إلى فلسطين، وهو الأمر الذي يكشف الأساليب غير الأخلاقية التي مارستها الصهيونية خلال الاحتلال النازي ودورها المتواطئ في المحرقة اليهودية.
اضف تعليق