الاتفاق الذي توصل إليه عسكر السودان وقوى الحرية والتغيير فيها، يثير القلق أكثر من التفاؤل صحيح أن المجلس العسكري أُرغم على معاودة التفاوض مع قوى المعارضة، وأنه ارتضي بتقاسم المجلس السيادي مناصفة معها، وأنه رضخ كارهاً لفكرة \"التناوب\" على السلطة، وقَبِل بتشكيل لجنة تحقيق وطنية...
الاتفاق الذي توصل إليه "عسكر" السودان وقوى الحرية والتغيير فيها، يثير القلق أكثر من التفاؤل... صحيح أن المجلس العسكري أُرغم على معاودة التفاوض مع قوى المعارضة، وأنه ارتضي بتقاسم المجلس السيادي مناصفة معها، وأنه رضخ كارهاً لفكرة "التناوب" على السلطة، وقَبِل بتشكيل لجنة تحقيق وطنية محايدة في الجرائم التي قارفها ضد المتظاهرين السلميين.
لكن الصحيح كذلك، أن المعارضة بدورها، قدمت ما يكفي من التنازلات المقلقة... منها أنها سلمت رئاسة المجلس السيادي للجنرالات لمدة عامين متتاليين، وأسقطت مطلبها بغلبة المدنيين على "العسكر" في تشكيلة المجلس، ومنها أن سحبت شرط محاسبة المسؤولين عن القتل الجماعي في شوارع الخرطوم وأزقتها، قبل الشروع في أي حوار مع سلطة الأمر الواقع.
مصدر التفاؤل، يكمن في أن الشعب السوداني وقف نداً قوياً للجنرالات، ولأول مرة على هذا النحو المتحدي منذ الاستقلال، وأنه نجح في إخراج المليونيّات إلى الشوارع بعد أزيد من ستة أشهر متواصلة من الانتفاضة... مصدر التفاؤل أيضاً، يكمن في هذا الوعي الدافق الذي عبرت عنه النخبة الثورية السودانية، وإدراكها العميق لألاعيب "العسكر" ومناوراتهم، ودرايتهم بالتعقيدات المحلية والإقليمية والدولية المحيطة بثورتهم.
لكن مشاعر القلق والتحسب والتخوف مع ذلك، ما زالت تجتاحنا، فليست لدينا أدنى درجة من الثقة بالجنرالات من تلاميذ مدرسة "عمر حسن البشير"، ولقد أكدت ممارستهم خلال الشهرين الفائتين، أعمق مخاوفنا، فهم متشبثون بالسلطة كما كان "زعيمهم المخلوع"، وإن ترك الأمر لهم، سيظلون على رأسها لثلاثين سنة قادمة... وهم من قبل ومن بعد، لن يفعلوا شيئاً سوى تغيير الوجوه والأسماء، أما "النظام" بما هو تركيبة وموقع ودور وتحالفات ونهج سياسي – اقتصادي – اجتماعي، فباقٍ ما بقي هؤلاء.
لم يترددوا للحظة واحدة في إطلاق الرصاص الحي على المتظاهرين السلميين، وفي ربط جثثهم بالأثقال ورميها في نهر النيل... طاردوا الشبان والشابات في الأحياء والأزقة... أشهروا فزاعة الطابور الخامس والفئات المدسوسة والمندسة لتبرير انقضاضهم على اعتصام قيادة الجيش... لعبوا على التناقضات وأثاروا الانقسامات الداخلية... لوّحوا براية الشريعة في مواجهة "المنحلين" و"المخمورين" على أرض الاعتصام، لجأوا إلى حلفاء البشير من مجموعات ومكونات ومليشيات وحاولوا تصويرها كركن ركين من قوى الثورة والتغيير... أعلنوا اصطفافهم مع حلفاء البشير على الساحة الإقليمية والدولية، وتعهدوا بمواصلة مسيرته في السياسة الخارجية مع أنها لم تجلب للسودان وأبنائه سوى الكوارث... وأخيراً، تعاقدوا مع شركات للعلاقات العامة، برئاسة صهاينة من ذوي السمعة السيئة، لتلميع صورتهم وتحسينها لدى الرأي العام الغربي... "الجنرالات" يتصرفون كما لو أنهم في سدة الحكم أبداً، وليس بوصفهم زاهدين في السلطة، و"انتقاليين" يتطلعون بشوق للعودة إلى ثكناتهم.
هؤلاء لديهم الآن، عامين كاملين لمقارعة قوى الثورة والتغيير والشعب السوداني برمته... سيعملون على تفكيك وحدتها، وخلق النزاعات داخلها، تقريب بعضها وإبعاد بعضها الآخر، ضرب بعضها ببعضها... سيعملون على اختلاق المبررات والذرائع لتصفية قوى الثورة والحرية والتغيير، الواحدة تلو الأخرى... وما أن يتراجع اهتمام العالم بالمسألة السودانية، حتى يخلو لهم الجو، ويبدؤون في تنفيذ برنامجهم... لم يصدر عن "جنرالات البشير" ما يشي بأنهم سائرون على خطى "سوار الذهب"، هم يقتدون بمعلمهم المخلوع، وبجعفر النميري... وأحسب أن أكثرهم إثارة للمخاوف هو قائد قوات الدعم السريع، الجنرال حميدتي، الرجل المسكون بطموحات لا حدود لها، والذي يبدو مستعداً لحرق السودان والسودانيين، من أجل تحقيقها.
لا شك أن هذه المخاوف، لا تخفى على قوى الحرية والتغيير، وربما لهذا السبب جاءت دعوتهم للشعب السوداني للبقاء على أهبة الاستعداد، وإبداء الحيطة واليقظة والحذر... ولكن هيهات أن يعود الناس إلى الشوارع، ما أن تضع ثورتهم أوزارها، ويعاود الناس مزاولة يومياتهم الرتيبة المعتادة، حتى وإن حملت ثورتهم اسم: "الثورة المغدورة".
شرعنة حكم العسكر أم انتقال نحو الديمقراطية؟!
وفي الليلة الثامنة والتسعين بعد المائة، يخرج مئات ألوف السودانيون إلى الشوارع والميادين كدأبهم منذ أكثر من ستة أشهر... هذه المرة بلا جثث عائمة على سطح نيليهم الأبيض والأزرق، من دون قناصين مجهولين – معلومين "يصطادون" المتظاهرين السلميين كما لو كانوا طرائد، من دون اعتقالات للنشطاء ولا اقتحامات لمنازلهم... خرجوا للاحتفال بنصرهم "الانتقالي" على المجلس العسكري، وتوصل قوى الحرية والتغيير لاتفاق مع الجنرالات لتشكيل مؤسسات السلطة الانتقالية.
الاتفاق الذي أبرم بوساطة أفريقية – أثيوبية، نص على تشكيل مجلس سيادي مناصفة بين العسكر والمدنيين، وتشكيل حكومة مدنية بالكامل، وأرجأ البحث في تشكيل المجلس التشريعي الانتقالي إلى حين مباشرة المجلس السيادي والحكومة الجديدة لمهامها، كما تقرر بموجب الاتفاق، تشكيل لجنة تحقيق في الجرائم التي ارتكبت بحق المدنيين، على أن تجري تحقيقاً نزيهاً، محايداً وشفافاً في الظروف والملابسات التي أودت بحياة عشرات النشطاء والناشطات، وهو التحقيق الذي أخفق المجلس العسكري في إجرائه.
بمراجعة بنود الاتفاق الانتقالي، يتضح أن قوى الحرية والتغيير، قدمت جملة من التنازلات أهمها ثلاثة: (1) التراجع عن استقالة المجلس العسكري بوصفه المسؤول عن الجرائم المرتكبة بحق المتظاهرين السلميين، واشتراط إجراء التحقيق بهذه الجرائم قبل الوصول إلى أي اتفاق مع الجنرالات... (2) التراجع عن مطلبها بوجود أغلبية مدنية في المجلس السيادي، وتولي شخصية وطنية – مدنية رئاسته، وقبول تولي العسكر رئاسة المجلس في مرحلة أولى ممتدة لعامين من عمره الذي "يزيد قليلاً" عن ثلاث سنوات، كما قال الوسيط الأفريقي... (3) إرجاء تشكيل المجلس التشريعي الانتقالي لمرحلة لاحقة، لم تتحدد، بعد أن كانت تطالب بتشكيله تزامناً مع تشكيل المجلس السيادي والحكومة المدنية.
في المقابل، تراجع "العسكر" خطوتان إلى الوراء: (1) القبول بمرحلة انتقالية "تزيد قليلاً" عن ثلاث سنوات بعد أن كان يطالبون بمرحلة انتقالية قصيرة نسبياً... (2) القبول بالمناصفة في تشكيل المجلس السيادي والتناوب على رئاسته، بعد أن كان يطالب بأغلبية ورئاسة عسكريتين للمجلس، شريطة أن تظل رئاسة المجلس في أول عامين بيد المجلس العسكري.
من حيث الشكل والنصوص، يبدو الاتفاق متوازناً، ويحمل بهذا القدر أو ذاك، معظم مطالب قوى الحرية والتغيير، لكن من حيث المضمون والنتائج المتوقعة، ثمة يبدو الاتفاق مفخخاً بالكثير من الألغام، ويحمل في طياته بذور انهياره، والأمر من قبل ومن بعد، رهنٌ بما تستبطنه بنود الاتفاق من نوايا وأجندات متناقضة لطرفيه المتعاقدين.
ليس ثمة من سبب واحد يدعو للثقة بصدق نوايا الجنرالات الذي جاء بهم الرئيس المخلوع، وكانوا أدوات طيّعة لنظامه طيلة سنوات طوال، وهم برهنوا بعد الإطاحة بالرئيس عمر حسن البشير في أبريل الفائت، بأن متشبثون بالسلطة، وأنهم "جاءوا ليبقوا"، وليس ثمة ما يدعو للاعتقاد بأن شيئاً جوهرياً قد تغير، لا في نواياهم المضمرة ولا في أجنداتهم المعلنة... لقد أطلقوا الرصاص الحي على المتظاهرين في الشوارع، واستدعوا المليشيات المسلحة لقتل المحتجين، فهل ثمة من "دليل كاشف" لقبح نواياهم الخبيئة والخبيثة، أكثر من هذا؟
لقد تنصلوا من اتفاقات سابقة مع قوى الحرية والتغيير، وقالوا إنها لاغية وكأنها لم تكن، ما أن أتيحت لهم الفرصة لفعل ذلك، فما الذي سيمنعهم من التنصل من الاتفاق الأخير في أول سانحة على الطريق؟.... لقد أغلقوا باب الحوار مع قوى الحرية والتغيير وأوقفوا التفاوض معها، وعملوا على خلق محاورين آخرين، بعضهم من أتباع النظام السابق والمقربين منه، عملاً بقاعدة "فرّق تسد"، وتكتيك "إغراق المعارضة الجدية والمستقلة في بحر من الكيانات والمكونات الموالية للمؤسسة العسكرية ورئيسها المخلوع"، فما الذي سيمنعهم من مواصلة العمل بهذه السياسة في المستقبل، ألم تكن لافتة رسائل الجنرال حميدتي إلى حلفائه، في أول تعليق له بعد الاتفاق، لطمأنتهم على أدوارهم ومشاركتهم في ترتيبات المرحلة الانتقالية؟
وبدل الشروع في إجراء تحقيق شفاف ونزيه، وتفعيل السلطة القضائية لملاحقة المتسببين بقتل العشرات من شبان السودان وشاباته، ظل المجلس العسكري يراوغ ويماطل طيلة أسابيع، ويُحمّل أشباحاً و"أطراف ثالثة" و"عناصر مندسة ومدسوسة" وزر الجريمة، وشرع في البحث عن "شركات للعلاقات العامة" لإبرام عقود معها، بهدف "تبييض" صورته في الخارج وتلميعها واحتواء الانتقادات الدولية لإدائه الدموي في الأسابيع الأخيرة... لا شيء يوحي بأن الجنرالات يفكرون بمغادرة السلطة، جُلّ تفكيرهم في البحث عن الطريق الأقل كلفة للبقاء فوق قمة هرمها، وتفكيك قوى الثورة والتغيير، على نحو متدرج توطئة للانقضاض عليها حين تصبح الظروف مواتية، وبأقل قدر من ردود الأفعال الإقليمية والدولية.
يزيد الطين بلّة، أن حلفاء المجلس العسكري وداعميه الإقليميين، أظهروا إصراراً منقطع النظير على تقديم كل أشكال الدعم والاسناد له في معركته للبقاء في السلطة، وليس ثمة من مؤشر واحد، على أنهم سيتراجعون عن تقديم هذا الدعم: مليارات الدولارات في الداخل لامتصاص الضائقة الاقتصادية ما أمكن، وجهود دبلوماسية كثيفة داخل الاتحاد الأفريقي وعلى الساحة الدولية، لاحتواء موجة الغضب والانتقادات التي استثارتها إجراءات المجلس العسكري... فالدول التي تشكل منها "معسكر الثورة المضادة" لثورات الربيع العربي وانتفاضاته، لا تريد للسودان أن "يسقط" في أيدي قوى الحرية والتغيير، وتريد لجنرالاته أن يعيدوا بعضاً من فصول التجربتين المصرية والليبية (حفتر)، كما أن للجيش السوداني وقوات الدعم السريع وبقايا "الجنجويد" دوراً عسكريا بارزاً في الحرب اليمنية، لا يريد التحالف العربي بقيادة السعودية، أن يخسره في الوقت الذي تتواتر فيه الأنباء عن انسحاب إماراتي، كلي أو جزئي، من اليمن، وثمة ما يؤكد أن المجلس العسكري قد أرسل مؤخراً مزيداً من الجنود، وسمح بتجنيد المزيد من الأطفال السودانيين للانخراط في الحرب اليمنية، بشهادة تقارير دولية وأمريكية موثقة في هذا الشأن.
حسابات الثورة
قوى الحرية والتغيير، تراهن على قدرة الشارع السوداني على مواصلة الضغط على المجلس العسكري لتنفيذ الاتفاق المبرم بدقة وأمانة، واستكمال الحوار لتشكيل بقية مؤسسات السلطة الانتقالية، وضمان الالتزام بالرزنامة الزمنية التي حددها الاتفاق والتي ستنتهي في غضون ثلاثة أعوام أو أزيد قليلاً، بالاتفاق على دستور جديد للبلاد، وإجراء انتخابات عامة، تنتهي إلى إعادة العسكر إلى ثكناتهم، وبناء دولة مدنية – ديمقراطية – تعددية في السودان.
والحقيقة أن الرهان على بقاء الشارع والمتظاهرين في حالة تأهب واستنفار، لا يبدو رهاناً واقعياً، وقدرة قوى الحرية والتغيير على استدعاء الشارع وحشده وراء مطالبها، لن تظل بالفاعلية ذاتها، ما أن يعود المتظاهرون إلى حياتهم اليومية المعتادة، سيما وأن المجلس العسكري، سيظل يحاول اللعب على ورقة الانقسامات في صفوف قوى الثورة والتغيير، وسيعمل على استخدام "أدوات السلطة" في تعميق المنافسة وخلق الانقسامات في أوساطها، مما قد ينعكس وبالاً على نفوذها وتأثيرها وشعبيتها، ولدى المجلس عامان على أقل تقدير، لفعل ذلك، إن افترضنا أنه سيحيل رئاسة المجلس السيادي إلى شخصية مدنية في نهاية ولايته.
والمعارضة السودانية تراهن كذلك، على ما حققه الشعب السوداني من تعاطف أفريقي ودولي لقضيته المشروعة وإصراره العنيد على التصدي لحكم الجنرالات، واستعداداته الفائقة لتقديم التضحيات والبطولات في معركته من أجل الحرية والتغيير، لكن ثمة خشية واقعية من تراجع الاهتمام الدولي والإقليمي بالقضية السودانية، ما أن تخلو الشوارع من المتظاهرين، ويعود هؤلاء إلى يومياتهم الرتيبة.
السودان ما زال على طريق الانتقال الصعب والمرير، وهو طريق ليس ذي اتجاه واحد، وليس ثمة من ضمانات بعدم العودة والانتكاس إلى الوراء... وأحسب أن الاحتفالات بالنصر التي شهدتها شوارع الخرطوم وميادينها، تبدو سابقة لأوانها، بل ويمكن القول في ضوء ما تم التوصل إليه من اتفاقات حتى الآن، بأن فرص نجاح العسكر في "شرعنة" الحكم العسكري ربما تبدو أعلى من فرص قوى الحرية والتغيير في قيادة الانتقال بالبلاد إلى ضفاف الحرية والديمقراطية والمدنية، ما لم تتمكن الأخيرة من مأسسة وتنظيم حركة شعبية قادرة على الاستمرار في الضغط من أسفل إلى أعلى، وإبقاء مشروع الثورة والتغيير على رأس الأجندة الوطنية للشعب السوداني.
اضف تعليق