لم تكن "داعش" وهي النسخة المطورة والاكثر وحشية من تنظيم القاعدة الارهابي وليدة لحظة ولا فكرة شخص اخترعها بعيدا عن ارض الواقع الذي ولدت فيه وانجذب اليها طوعا، كما انها لم تكن لتستمر لولا وجود الحواضن الفكرية والاجتماعية، وهي لم يكتب لها البقاء والتمدد لولا وجود الدعم المالي، وما كان لها ان تتضخم لولا استفادتها اعلاميا من الفضائيات والتطور التقني لوسائل الاتصال.

هذه العوامل ساعدت "داعش" على الولادة والاستمرار وهي العوامل نفسها التي ينبغي ان تكون جبهات قتالها، فالصفحة العسكرية تمثل معركة ضمن الحرب على هذا التنظيم الذي ولد بعدما استولى على مساحات واسعة في سوريا والعراق، وأعلن على اثرها دولة خلافته المزعومة مع اعلان ولايات هنا وهناك ليس بينها امتداد جغرافي، بل لها اتصال فكري وعقائدي واعلامي في العالم الافتراضي ونشاط ارهابي تمارسه بين الحين والآخر في مختلف العواصم والمدن شرقيها وغربيها، ولكن الجبهة الحقيقية كانت في سوريا ولاحقا في العراق واللذين يكافحان من اجل القضاء على "داعش" في معركة اعلن العالم كله تقريبا ان العراق يقاتل فيها نيابة عنه وعلى ارضه تنظيما ليس ببعيدة عن ارهابه اية عاصمة من عواصم العالم.

هذه الصفحة العسكرية هي الجبهة الاولى في قتال "داعش" وهي جبهة لاحت بوادر النصر النهائي فيها ولكن مع تحقق هذا الانتصار فان الحرب لن تنتهي، فليس من ضمان ان تظهر نسخة اخرى عن "داعش" اشد فتكا واكثر تطرفا، في العراق او في غيره ، ولذا فان الحرب على "داعش" تحتاج الى قتال على جبهات اخرى اولها الجبهة الفكرية التي تستمد منها هذه التنظيمات الارهابية عقيدة الموت والتدمير والتكفير للآخر مهما كان، هذه المعركة كانت ارضها ولا تزال، الافكار والنصوص التي تحفل بها كتب التاريخ والتراث التي تستدعى اجزاء منها كلما كانت هناك حاجة لتأصيل فكري، متخذة من التأويل التعسفي للنص سبيلا للوصول الى غايتها، فهي تعتنق الفكرة ثم تلجأ الى النص لتجد فيه ما يبرر لها اعتناقها، وهنا يأتي دور النخب الدينية المتمثلة بالمرجعيات الدينية من مختلف المذاهب التي تدين بالاسلام، ويأتي دور النخب الثقافية والمؤسسات الاكاديمية التي تؤمن بالوسطية والاعتدال لإيجاد تيار ينبذ التطرف والكراهية وينزع مفردات التكفير وتجويز قتل الآخر واضطهاده تحت مبررات دينية.

هذه الجبهة المعنية بتجفيف المنابع الفكرية والاصول الثقافية للارهاب لا بد ان يرافقها قتال على جبهة تجفيف منابع الارهاب المالية وموارده العسكرية التي تديم الحياة للإرهاب وتعطيه عوامل الاستمرار بل القوة، وهنا يأتي بصورة رئيسية دور السياسة والمصالح الدولية في قطع هذا التمويل او استمراره، وربما هذه الجبهة من اشد الجبهات تعقيدا وتشابكا ففيها ومن خلالها تترابط وتفسر الصراعات بين الدول اقليميا ودوليا واحيانا محليا الجبهة الاخرى وليست الاخيرة ربما، وتتمثل بالقتال على الجبهة الاعلامية، فقد عملت بعض الفضائيات على الترويج لـ"داعش" ليس خدمة لـ"داعش" بصورة مباشرة، والا لاتخذت من "داعش" نظاما للحكم في بلدانها، ولكن خدمة لمشروعها فهي ترى في اثارة الصراع الطائفي ما يحقق مصالحها ولذا ظهر لدينا نوعان من الفضائيات، الاول يروج سياسيا - من خلال الفضائيات الاخبارية - للشحن الطائفي بصورة يستفيد منها الارهاب، والنوع الثاني يروج للطائفية دينيا من خلال ما نستطيع ان نسميه حرب المساجد الالكترونية، وهي حرب تشترك فيها كل الطوائف ولا اعتقد بأنها مجرد فعل ورد فعل مقابل، بل هي افعال بملء الارادة تتم بصورة ممنهجة ضمن الصراع الاقليمي وتديرها مؤسسات ضخمة تتبع لحكومات وعلى نفس الجبهة الاعلامية ينبغي القتال على ساحة الانترنيت.

هذا العالم الافتراضي الذي استفادت منه "داعش" وخصوصا وسائل التواصل الاجتماعي، وبالاخص موقع "تويتر"، لتمرير وترويج وتسويق افكارها واهدافها وغاياتها، وقد نجحت فيه حتى الآن نجاحا كبيرا وسيستمر هذا النجاح ما لم تبذل جهود موازية تكافئها بالقوة وتعادلها بالمضمون، اما التعويل على الشركات التي تمتلك هذه المواقع فليس من المتوقع ان يأتي بنتيجة ملموسة على الرغم من التنبه مؤخرا الى خطورة "داعش" الناشئة عن استخدامها لهذه المواقع، ولكن في افضل الاحوال فان شركات "الفيس بوك" و"تويتر" ليست مستعدة سوى لإسقاط المحتوى الذي يحمل تهديدا واضحا وصريحا لحياة البشر، مع تقديم ادلة ملموسة على هذا التهديد وهي عملية معقدة وحتى وان تم الاتفاق عليها فانها لن تواكب القدرة على انشاء مواقع جديدة بديلة عن التي تم حذفها وهي اشبه ما تكون بحرب مطاردة اشباح.

الحرب على "داعش" حرب ينبغي خوضها على هذه الجبهات الاربع المتشابكة والمترابطة وليس هناك ضمان لربح الحرب مالم يتم الانتصار في هذه الجبهات مجتمعة، ويبقى السؤال الاهم: من منا ليست له القدرة على المشاركة في احدى هذه الجبهات وماذا نسمي من لايقاتل على احداها؟.

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق