القول: إن الديمقراطية تصلح لكل الأنظمة والمجتمعات، وأنها تعني ضمان حق إقامة الانتخابات وفق آليات موصوفة بالنزاهة وبشكل دوري وضمان حق الاقتراع، إنما ذلك يمثل أوهام شائعة ومسلمات مغلوطة، كما أن الحديث عن وجود محددات وصور نمطية للديمقراطية إنما يمثل هذا الطرح ابتعادا وافتراقا...
بعد انتخابات البرلمان الأوروبي قبل أيام وصعود اليمين المتطرف وتزايد فاعلية الشعبوية في أوروبا، تطرح أسئلة عدة عن جوهر الديمقراطية مابين الدلالة والمعنى..
إذ لا توجد هنالك دلالة ومعنى ومفهوم جامع ومانع للديمقراطية، لا على مستوى المفهوم ولا على مستوى الممارسة، إذا لا يوجد هنالك تعريف محدد لها من الناحية العلمية والأكاديمية ولا توصيف واقعي يعطي صيغ ودلالات وفق الظروف التاريخية والسياسية، كما لا توجد معطيات ثقافية يفرزها الواقع يمكن أن تحصر ضوابط للديمقراطية.
لقد تعرض مسار الديمقراطية إلى تحولات عديدة منذ أيام اليونان القديمة ولغاية الآن، تمركزت حول الأبعاد الثقافية والسياسية لها، وآليات ووسائل تحققيها وفقا للتحولات التاريخية والخصوصيات الثقافية والاجتماعية، فهنالك فك ارتباط بين المفهوم وآليات الممارسة الواقعية وخصوصية التجارب.
إن إجراء عملية مسح ونقد وإعادة تفكير في الديمقراطية فيما يتعلق بالتداول السياسي أو الإعلامي التي تعتبرها وصفة واحدة جاهزة للإحلال كما لو كانت حقيقة راسخة بديهية، يحتاج إلى إعادة نظر، فالقول: إن الديمقراطية تصلح لكل الأنظمة والمجتمعات، وأنها تعني ضمان حق إقامة الانتخابات وفق آليات موصوفة بالنزاهة وبشكل دوري وضمان حق الاقتراع، إنما ذلك يمثل أوهام شائعة ومسلمات مغلوطة، كما أن الحديث عن وجود محددات وصور نمطية للديمقراطية إنما يمثل هذا الطرح ابتعادا وافتراقا عن الواقع القائم ويحمل في طياته بعدا مثاليا طوباويا، ورومانسية سياسية تفترض ما ينبغي أن يكون، لا ماهو قائم بالفعل.
لأن الديمقراطية لا تعني فقط إجراء الانتخابات الدورية وضمان حق الانتخاب والمشاركة السياسية، فهنالك دول غير ديمقراطية تجري انتخابات وتضمن حق الاقتراع بشكل دوري. فهل نستطيع أن نسمي تلك الدول بأنها ديمقراطية بشكل مُسَلم فيه؟، بل حتى في بعض الدول الغربية التي يشاع على أنها ذات ديمقراطية عريقة ولها رسوخ في التجارب العميقة للتقاليد والممارسات الانتخابية واحترام الدستور والقوانين، تجد الديمقراطية فيها موضع شك وتساؤل.
فهنالك اشتراطات ومعاني ومضامين نموذجية للديمقراطية كمفهوم وممارسة ومنها:
- وجود ضمانات للتمثيل الحقيقي والمناسب الذي يشمل كل القوى السياسية والاجتماعية في الاشتراك في الانتخابات أو المشاركة السياسية في صنع واتخاذ القرار.
- تساوي الفرص، وهو يضمن الشرط الأول، لكن غالبا ما يكون هذا الشرط مغيبا أو مفقودا في أغلب الديمقراطيات، لأن الفرص لا تتاح للضعفاء وغير المتمكنين ماليا وإعلاميا، لأن النافذين ماليا وسياسيا هم وحدهم القادرون على تمويل الحملات الانتخابية المكلفة، واستقطاب وسائل الإعلام والدعاية التي تسوق برامجهم السياسية وتؤثر على الرأي العام وان كانت تلك البرامج غير مقنعة، لأن ماكينات الإعلام الكبرى تلعب دورا محوريا في العمليات الانتخابية وهي قادرة سياسيا على تسويق هؤلاء النافذين بشكل يجذب الرأي العام إليهم ولبرامجهم، وتعمل على ترجيح الكفة لصالح المرشحين الأغنياء.
إن مفهوم الأغلبية السياسية وحتى التوافقية لا يمكن أن تعبر عن الخصائص الديمقراطية بشكل واضح، فالحسابات الانتخابية من حيث عدد المشاركين في الانتخابات والقوى الفائزة بنصف زائد واحد، مع تحديد سن معين للمشاركين وطريقة تشكيل الحكومة بالتحالفات، لا يعبر عن المفهوم الحقيقي للديمقراطية الذي يعني حكم الشعب وتمثيله بأكمله، فالتعريف اليوناني القديم للديمقراطية يعني حكم الشعب: أي ضرورة منح السلطة بالكامل للشعب، ولهذا يجب أن يكون هنالك قانون انتخابي يضمن التمثيل الحقيقي للجميع بشكل عادل، واشتراطات لتشكيل الحكومة لا تهمش طرف على حساب طرف آخر، ولا أن يكون التوافق بديلا للحقوق وإعطاء من لم يستحق ما يستحقه الآخرون.
هذا يدل على أنه لا توجد ديمقراطية مثالية ولا ديمقراطية واحدة نموذجية، إذ من خصائص الديمقراطية أنها تجمع مابين كونها منهج متكامل مترابط تتداخل فيه عوامل سياسية واجتماعية واقتصادية وثقافية، ومابين نظام سياسي للحكم يقتصر على الانتخابات وما يرتبط بها، أي أن الديمقراطية من حيث المعطى لا تعني أنها نظام سياسي مطلق بل مجرد خيار من بين خيارات عديدة لمواجهة المشكلات والأزمات أو لتحقيق الاستقرار، ولهذا فهي تحتاج إلى بقية الخيارات والعوامل المختلفة للتكامل كمنهج للحياة الاجتماعية.
وهذا يعني، أنه ثمة مساحات متنوعة في ممارسة الديمقراطية وفقا للخصوصيات وتعدد الثقافات وتنوع الطبقات الاجتماعية. وبالنتيجة لا توجد وصفة ديمقراطية واحدة وإنما هنالك نماذج متعددة على مستوى المفهوم والممارسة وهوامش مفتوحة متعددة ومرنة قادرة على التوافق والتكيف مع مختلف الأنظمة والثقافات والمجتمعات، فللديمقراطية هوامش مختلفة قد تفقد أو لا تفقد محدداتها وخصائصها الأساسية والجوهرية.
أما من ناحية الفاعلية، فهنالك أيضا تساؤلات محورية ما إذا كانت الديمقراطية تمثل الحل السحري لكل ماتتم مواجهته من أزمات وكل ما يتصل بخيارات الشعوب؟، وهل دائما الديمقراطية تكون على قدر الائتمان الذي ائتمنه الشعب لها عن طريق مخرجاتها؟، ألا تعتري الأنظمة الديمقراطية صفقات وتواطؤ في إدارة الشأن العام والخاص من تشكيل حكومات وإسناد مناصب وإقرار ميزانيات وتمويل وسائل إعلام وجيوش الكترونية وحملات انتخابية؟، كما أن هنالك تساؤلات أخرى تتعلق: من هم الذين يديرون السياسة في الديمقراطيات؟، هل هم النخب التكنوقراط والاختصاصيون؟ إذا كان كذلك، ستتعرض الديمقراطية إلى الوقوع في البيروقراطية. أم سيديرها المنتخبون فقط والمتحزبون؟ وعندها ستقع الديمقراطية في الفوضى لعدم المعرفة بأبجديات الحكم والسياسة وقد يتخللها الفساد أو يتسرب إليها في مفاصل السلطة والإدارة، وهؤلاء غالبا ما يتصرفون على أنهم أكثر من مخولين بإدارة الحكم والسلطة بل يرّون أنفسهم بأنهم أصحاب القرار في كل شاردة وواردة وهم لا يلجأون للشعب إلا بأوقات الانتخابات موسميا.
أما على مستوى الشعب، فهل تستطيع الديمقراطية أن تبقي الشعب موحدا؟، وهل تنجح دائما في الحفاظ على التعددية والتنوع؟، فهنالك جانب مهم أشار إليه من قبل جان جاك روسو وهو:
لا يمكن أن نتصور أن يبقى الشعب نفسه متوافقا أو مجتمعا على إدارة الشؤون العمومية وعندها تتحول التعددية إلى انقسام وفي أحيان كثيرة إلى الانفصال، حينما تصبح المجتمعات غير قادرة على حكم نفسها في ظل التنوع والتعدد الذي لا ينتج طبقة سياسية ذات جسور متماسكة لبناء السلطة مما يؤدي إلى التفكك، وكذلك أشار كارل شميت إلى أن جوهر الديمقراطية هو المساواة بين المواطنين، ومن شروطها أن يكون الشعب موحدا سياسيا.
ورغم لجوء مثل هذه المجتمعات إلى الديمقراطيات التمثيلية، لكن حتى هذا الشكل من الممارسة يبقى مجرد حل براغماتي ويمثل خيارا اضطراريا أو تسوية للالتفاف على عدم القدرة على ممارسة الديمقراطية المباشرة بسبب تزايد السكان والأراضي المتباعدة، مع ذلك ظهرت عيوب الديمقراطية التمثيلية كما أشرنا كونها سمحت لطبقات سياسية متنفذة بالوصول إلى السلطة عبر صناديق الانتخاب وحرمان الآخرين منها، ومن عيوبها أيضا طغيان الخلافات الداخلية للأحزاب، وأيضا تشابه وتقارب النتائج الانتخابية لتنتقل السلطة إلى الأحزاب نفسها والوجوه نفسها وتبقى مطالب الشعب ومصالحه تدور في فلك هذه الدوائر المحدودة التي تهيمن عليها زعامات سياسية ضيقة.
لهذا بدأت الديمقراطية التمثيلية تتعرض للرفض كممارسة بل وحتى كمفهوم، وبدأت الطبقات الاجتماعية الفقيرة والمتوسطة يحملونها ما يعانون من مشاكل، وبدأ الناس يتخلون عن الأحزاب التي تصل إلى السلطة عن طريق الديمقراطية، ولهذا بدأت تفقد عناصرها وخصائصها، وبدأت تتراجع لتطفو بالمقابل النوازع اليمينية المتطرفة القائمة على العنصرية والتقوقع وكراهية الآخر من المهاجرين المسلمين وغيرهم.
في خضم كل هذا تطرح هذه التساؤلات: لماذا تتعرض الديمقراطية للنقض؟، ولماذا بدأت الديمقراطية تهرم وتتجه صوب الاختفاء وتطرح بدائل مغايرة؟، هل هو خطأ في مفهوم الديمقراطية أم في ممارستها؟ أم أن الديمقراطية مجرد أوهام لا تعبر عن الحقائق القائمة؟ والسؤال الأهم كيف نفسر أن الديمقراطية التي تعني حكم الشعب وسلطته بات اليوم نسبيا يرفضها ويكرهها؟.
اضف تعليق