لا نريد في هذا المقال تقييم أداء الحركات الإسلامية على المستويين التشريعي والتنفيذي، عندما سنحت الديمقراطية لتلك الحركات بالوصول إلى السلطة، إذ أن هناك الكثير من الملاحظات والانتقادات على تجربة حركات الإسلام السياسي في الحكم، ولا يشمل المقال أيضا التنظيمات السلفية الجهادية لاختلاف برنامجها ومشروعها...
لا نريد في هذا المقال تقييم أداء الحركات الإسلامية على المستويين التشريعي والتنفيذي، عندما سنحت الديمقراطية لتلك الحركات بالوصول إلى السلطة، إذ أن هناك الكثير من الملاحظات والانتقادات على تجربة حركات الإسلام السياسي في الحكم، ولا يشمل المقال أيضا التنظيمات السلفية الجهادية لاختلاف برنامجها ومشروعها وكذلك أدواتها، وإنما نسلط الضوء على التغيير الحاصل في برامج الحركات الإسلامية.
إن موضوع تقييم الجانب النظري والفكري لدى الحركات الإسلامية شغل اهتمام المراقبين منذ نشوء أولى الحركات الإسلامية بعد أفول حكم الخلافة العثمانية، وبروز نزعة التغريب في بلدان العالمين العربي والإسلامي، فقد تبنت حركات الإسلام السياسي - كالإخوان المسلمين (تأسست 1928)، وحزب التحرير الإسلامي (تأسس 1953)، وحزب الدعوة الإسلامية (تأسس1957)، وما تفرع عنهم من تنظيمات وحركات تنتمي في مجملها للفقه التقليدي لدى المذهبين السني والشيعي الأكثر انتشارا بين المسلمين - تبنت في أدبياتها التأسيسية مشروع الإحياء الديني، وشمل هذا الإحياء السعي إلى إيجاد الحكومة الإسلامية، وحكم الدولة والمجتمع بما أنزل الله: سياسيا واجتماعيا واقتصاديا وجنائيا، تمثل ذلك في مؤلفات المنظرين الدعاة الأوائل: كأبي الأعلى المودودي في مؤلفاته (تدوين الدستور الإسلامي، نظرية الإسلام وهديه في السياسة والقانون والدستور)، وبعده بمدة قصيرة كتب الداعية المصري سيد قطب (معالم على الطريق)، وتفسيره للقرآن الكريم في مجموعة مجلدات بعنوان (في ظلال القرآن)، ومن ثم وضع الفقيه والقانوني عبد القادر عودة مؤلفه في حكم الإسلام في العقوبات (القانون الجنائي الإسلامي مقارنا بالقانون الوضعي).
وعلى أثر تلك المؤلفات التي تحمل إلى جانب المطالبة بتطبيق الشريعة الإسلامية، تكفير المجتمع والحكومات الذين لم يطبقوا حاكمية الله سواء كانت حكومة استبدادية أو حكومة ديمقراطية، ودخلت هذه الحركات بموجب هذه الرؤى والمواقف في صدام مباشر مع الأنظمة العربية ذات الصبغة القومية، وشعارات العروبة والتحرر: كمصر الناصرية، والعراق في ظل حكم البعث، وسوريا في ظل حكم الأسد.
وبعد موجة القمع التي تعرض لها دعاة الحركات الإسلامية حاول بعض الدعاة الإسلاميين مراجعة أدبيات الحركات الإسلامية، ولعل في مقدمة هؤلاء مراجعة الشيخ الهضيبي الذي وضع مؤلفه (دعاة لا قضاة) في محاولة منه للتمييز بين الدعوة إلى الله والحكم والتشريع في المجالات السياسية والاجتماعية والجنائية، والتقييم الذاتي الذي قامت به الجماعة الإسلامية (تأسست 1972) في تونس برئاسة الشيخ راشد الغنوشي، لتبدأ من اسم الجماعة وتصبح بعنوان (حركة النهضة) وذلك بعد أن عرض الغنوشي على أعضاء الحركة عند انعقاد مؤتمرها الثاني.
ومع ركود دور الحركات الإسلامية في الساحة السياسية في البلدان العربية ذات نمط الحكم القومي الاستبدادي، عملت عدد من الحركات على مراجعة أكبر في حين فضلت عدد من الحركات الركون إلى المحافظة والبقاء على ما تسميه بالثوابت، وقبل الإنتقال إلى فترة ما بعد سقوط الحكم الاستبدادي بأثر الثورات الشعبية في مطلع عام 2011، عملت بعض الحركات الإسلامية في البلدان العربية التي عرفت بالتعددية الحزبية، فمثلا في لبنان بعد اتفاق الطائف في عام 1989 أجرى حزب الله (تأسس 1985) المنبثق عن حركة أمل (تأسست 1974) تجديدا في برنامجه السياسي، إذ أنه قبل هذا الاتفاق كان الحزب مقاطعا للمجال السياسي اللبناني لأسباب إيديولوجية وعقائدية، حيث ورد في أدبياته إيمانه الكامل بتطبيق الحكومة الإسلامية وفق ولاية الفقيه، لكن الحزب قبل بالديمقراطية وفق الطريقة اللبنانية إبتداءً في دخوله أول انتخابات نيابية عام 1992 ليتقاسم السلطة مع حركة أمل نيابةً عن جنوب لبنان.
عموما، بعد عام 2011 عدلت عدد من الحركات السياسية الإسلامية من منهاجها، وهذا هو الملاحظ بصورة جلية عند حركة النهضة في تونس من خلال إيمانها بالمؤسسة، والتوافقية، والديمقراطية، ليبتعد راشد الغنوشي رئيس الحركة من مدرسة سيد قطب إلى تأثره بمدرسة مالك بن نبي صاحب المشروع الفكري (شروط النهضة)، في عام 2016 خرجت من السرية إلى العلنية، وعندما عقدت الحركة مؤتمرها السادس، خرجت بمقررات جديدة منها القبول بالتعددية، والدولة المدنية والمواطناتية، وفصل العمل الدعوي عن العمل السياسي أي الانتقال من مربع الإسلام السياسي إلى مربع الإسلام الديمقراطي، معتبرا أن العمل في المجال السياسي (تخصصاً).
إلى جانب ذلك، لم تعد الحركة تحتكر حق الولاية السياسية على المسلمين مثلما تنص كتب السياسة الشرعية، حيث عمدت في قائمتها الانتخابية لاختيار أعضاء مجلس النواب في الانتخابات الأخيرة إلى إشراك غير المسلمين فيها من يهود ومسيحيين، كما يلاحظ ما يقاربه لدى الحركات والتيارات الإسلامية في العراق، حيث خاض تيار الحكمة الانتخابات النيابية بقائمة تضم مسيحيين وصابئة، وعمد التيار الصدري بقائمة تضم مدنيين وشيوعيين، في حين أن الأدبيات الشيعية كانت قد حرمت الانتماء أو الترويج للأحزاب الشيوعية.
ومما تقدم، إذا كان هذا التعديل في البرامج الذي أخذت به الحركات الإسلامية المذكورة باتجاه الإيمان بدولة المواطنة، والتداول السلمي للسلطة، والتعددية السياسية منهاجاً وسلوكاً وفلسفةً فإنه يعد تطورا إيجابيا في قبول هذا المعطى، أما إذا كانت تقبل به كتكتيك فقط للوصول إلى السلطة كحالة توفر المال والنفوذ والهيمنة فهو من دون شك تجديد شكلي - نفعي.
اضف تعليق