أشار هذا القرار تساؤلات عديدة من ناحية التوقيت في ظل عزم انقرة شن عملية عسكرية شرق الفرات ضد القوات الكوردية الشريك الأساسي المحلي للولايات المتحدة بالإضافة الى أن تنظيم داعش لازال يتموضع في بعض المناطق في حوض الفرات والقريب من الحدود العراقية لسوريا وإعلان بوتين...

دخلت الحرب السورية منعطفا آخر جديدا عندما أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في 19 كانون الأول 2018 في تغريدة له عبر تويتر قرارا بسحب القوات الامريكية من سوريا بعد القضاء على تنظيم داعش، وهي خطوة اعتبرها الكثير مفاجأة ترامب الاستراتيجية والتي شغلت دوائر القرار في العالم لأنه خيار سيظهر تأثيره على التوازن في الشمال والشرق السوري بعد أن كانت كل المؤشرات التي تصدر بين كبار المسؤولين الأمريكيين تشير الى أهمية بقاء القوات الامريكية هناك لضمان مرحلة ما بعد داعش وتحقيق التوازن مع الوجود العسكري الروسي وحماية إسرائيل وتحجيم النفوذ الإيراني وخروج المليشيات التي تدعمها في سوريا.

لقد أشار هذا القرار تساؤلات عديدة من ناحية التوقيت في ظل عزم انقرة شن عملية عسكرية شرق الفرات ضد القوات الكوردية الشريك الأساسي المحلي للولايات المتحدة الامريكية بالإضافة الى أن تنظيم داعش لازال يتموضع في بعض المناطق في حوض الفرات والقريب من الحدود العراقية لسوريا وإعلان بوتين أن العام القادم سيشهد انطلاق المرحلة السياسية للازمة السورية وتشكيل لجنة صياغة الدستور.

توزيع القوات الامريكية في سوريا:

تنتشر القوات الامريكية في (20) قاعدة وموقع في الشمال والشرق السوري وأهم هذه القواعد هي:

1. قاعدة الرميلان في الحسكة وفيها قاعدة جوية للشحن العسكري.

2. قاعدة خراب عشق قرب عين العرب (كوباني) وفيها مهبط للطائرات المروحية.

3. تل بيدر وتضم قوات خاصة ومخصصة لتدريب القوات شبه العسكرية.

4. قاعدة الشدادي جنوب الحسكة وفيها قوات خاصة أمريكية.

5. قاعدة تل تمر على الحدود السورية التركية وتضم جنود من القوات الامريكية والفرنسية.

6. مقر قيادة في عين دادات غرب منبج.

7. قاعدة حمرين شرق منبج للشحن العسكري.

8. قاعدة الطليقة ومطار للشحن العسكري والطائرات المروحية.

9. قاعدة عين عيسى وتضم جنود من القوات الامريكية والفرنسية.

10. قاعدة التنف في الجنوب الشرقي من سوريا قرب الحدود العراقية.

الاستراتيجية الامريكية في سوريا:

إن الهدف الأساسي من التدخل الأمريكي في الشرق السوري كان للقضاء على تنظيم داعش الذي احتل مناطق ومدن بلغت 50% من مساحة سوريا والبالغة 190 ألف كم2 وكانت الاستراتيجية تركز على:

1. دعم الحلفاء المحليين من الاكراد والتي شكلت ما يسمى بقوات سوريا الديمقراطية.

2. الضربات الجوية لاستنزاف قدرات تنظيم داعش.

3. القيام بعمليات نوعية ضد قيادات التنظيم.

4. تهيئة قوة تقدر بـ (40) ألف مقاتل من الاكراد لمسك الحدود من الجانب السوري ما بين تركيا والعراق.

توسيع الأهداف:

بعد القضاء على الوجود العسكري لتنظيم داعش في العراق وتقليص مساحة سيطرته في سوريا لتصل الى 2% أعلنت الولايات المتحدة الامريكية عن استراتيجية جديدة في شباط عام 2018 لتشمل اهداف أخرى واهمها:

1. تحجيم النفوذ الإيراني في سوريا وتشكيل منطقة عازلة في الشرق السوري لمنع الامتداد الإيراني من إيران الى العراق وعبر سوريا الى لبنان.

2. خلق توازن عسكري مع الوجود الروسي في سوريا.

3. حماية إسرائيل من التهديد الإيراني والمليشيات الموالية لها.

4. تشكيل ضغط سياسي ودبلوماسي على نظام بشار الأسد وحلفائه من الروس والإيرانيين للوصول الى مخرجات سياسية تلائم المصالح الامريكية وحلفائها في المنطقة وهذا ما يفسر سيطرتها على مناطق شرق سوريا والتي تضم أكبر مصادر النفط والغاز ومنع النظام السوري وحلفائه من الوصول اليها التي تخدم مصالحهم في مرحلة إعادة اعمار المناطق المدمرة جراء الحرب وهي ورقة ضغط مؤثرة على مسار العملية السياسية والتسويات في المرحلة المقبلة.

القرار المفاجئ:

اعلن الرئيس ترامب في 19 من هذا الشهر عن قراره بسحب القوات الامريكية من سوريا والذي اعتبرها البعض بأنها خطوة مفاجئة لها تداعيات وارتدادات على الوضع السوري المعقد وعلى البيئة الإقليمية والدولية، واعتبر اغلب صناع القرار في العالم بأن بقاء القوات الامريكية سوف يمتد لأمد طويل وقد أشار كبار المسؤولين الى ذلك مثل ماكغوريك مبعوث الرئيس الأمريكي لمكافحة الإرهاب في العراق وسوريا واتفق معه جيمس جيفري المبعوث الأمريكي في الشأن السوري بانه لا يمكن رفع اليد عن سوريا والعودة الى الوطن، فضلاً عن تصريحات مستشار الامن القومي بولتون ووزير الخارجية بومبيو واللذان يعتبران أن الوجود الأمريكي في سوريا ليس فقط للقضاء على داعش وانما هو احد مرتكزات الاستراتيجية الامريكية ضد ايران وحلفائها من المليشيات، وكان البنتاغون برئاسة مايتس ورئيس هيئة الأركان المشتركة دانفورد يضعون الخطط لتدريب (40) الف من الاكراد في المنطقة.

حيث جاء توقيت القوات الامريكية الى أراضيها في مرحلة تشهد:

1. عزم تركيا للقيام بعملية واسعة شرق الفرات وارسال تعزيزات كبيرة الى الحدود مع سوريا.

2. جاء القرار بعد ساعات على إقرار صفقة باتريوت للدفاع الجوي بقيمة 305 مليار دولار بين أمريكا وتركيا.

3. جاء بعد اعلان الرئيس بوتين خلال مؤتمر صحفي سنوي بأن العام المقبل سيشهد الحل السياسي في سوريا وتشكيل لجنة صياغة الدستور لسوريا.

4. التزامن مع تنفيذ الاستراتيجية الامريكية ضد إيران.

أسباب الانسحاب:

1. تنفيذا لوعود سابقة طرحها الرئيس ترامب خلال حملته الانتخابية بإسقاط كافة الحروب في الشرق الأوسط والانسحاب من سوريا حال القضاء على تنظيم داعش والذي انتقد سلفه أوباما بأرسال قوات الى هناك.

2. عامل العلاقات الثنائية بين تركيا وامريكا والتي شهدت خلافات حادة لدعم أمريكا لوحدات الكردية والتي تعتبرها انقرة بأنها قوات تابعة الى تنظيم PKK وتصنفها على انها إرهابية.

3. التحديات التركية في شن عملية واسعة شرق الفرات ولتجنيب البلدين خطر الصدام العسكري على اعتبار تركيا حليف استراتيجي لا يمكن تفضيل قوات محلية عليها.

4. لقد أشار ترامب سابقا أن السبب الوحيد لوجودنا هناك (في سوريا) هو هزيمة تنظيم داعش.

5. لم تكن الطموحات الامريكية في سوريا مدعومة بالموارد الكافية وعدم استعداد الكونغرس والرأي الأمريكي الداخلي لدعم المهمة.

6. عدم رغبة ترامب بإرسال قوات أمريكية تحارب كما يقول عن الاخرين بدون شيء وهو طالما كان يذكر (المال مقابل الحماية) حتى مع أقرب حلفائها مثل السعودية وكوريا الجنوبية واليابان.

التحول المفاجئ وانتهاز الفرص:

إن هذا التحول في القرار الأمريكي يكشف انقسامات خطيرة داخل الإدارة حول سوريا خاصة بين ترامب واثنين من كبار المسؤولين وهما مستشار الامن القومي جون بولتون ووزير خارجيته مايك بومبيو، حيث لم يأخذ ترامب بتوصياتهم بأن أمريكا بحاجة الى الحفاظ على وجود عسكري ليس فقط للتعامل مع تنظيم داعش بل أيضا لمواجهة النفوذ الإيراني والمليشيات الموالية لها.

الرابحون من فرصة التحول الأمريكي:

هناك أربعة فائزين من قرار ترامب المستعجل وهم تركيا وسوريا وروسيا وإيران، حيث يعد هذا القرار انتصار لتركيا والتي تدعم المعارضة ضد حكم نظام بشار الأسد ولطالما اعترضت تركيا على دعم الولايات المتحدة الامريكية للقوات الكردية، والتي تعتبرها انقرة تابعة لحزب العمال التركي المصنف إرهابيا عندها، وكانت تستعد لشن العملية العسكرية التي أعلن عنها الرئيس اردوغان ضد قوات (YPG) لكن تم تأجيلها عقب القرار الأمريكي بالانسحاب بعد أن رأى الكثير بأنها انصاعت لمطالب تركيا في سوريا.

أما نظام بشار الأسد فقد انتهز فرصة الإعلان عن الانسحاب مع حلفائه الروس والإيرانيين وبدأت استعدادات عسكرية نحو الشرق السوري الغني بالنفط وتحرك الفيلق الخامس السوري من ادلب الى دير الزور في مهمة لاستعادة هذه المنطقة بالكامل، وملء الفراغ الذي سوف يخلفه الانسحاب الأمريكي. كما أن هذا القرار سوف يخفف من الضغوط على إيران ونفوذها في سوريا في وقت تعاني من فرض عقوبات اقتصادية واسعة وهذا ما يفسر ردة فعل نتنياهو السريعة عقب القرار بان إسرائيل سوف تبذل كل جهودها لمنع إيران من تشكيل قواعد مستدامة في سوريا وأن هذا الانسحاب سوف يترك الان المقاتلين المدعومين إيرانيا في مكانهم.

الخاسرون من الاتفاق

١- اسرائيل

من بين اهداف الوجود العسكري الأمريكي حماية إسرائيل من التهديدات الإيرانية والمليشيات المرتبطة بها وقد تجد إسرائيل نفسها في مواجهة هذه التهديدات بمفردها، الانسحاب الامريكي يعني ان اسرائيل ستكون بمواجهة مباشرة مع ايران وحزب الله في الارض السورية.

٢- العراق

ان اهم هذه التداعيات سوف تكون على الوضع الأمني العراقي اذ كان للقوات الامريكية دور كبير في حماية ومراقبة الحدود السورية العراقية مما يضيف أعباء عملياتية وأمنية على العراق لحماية حدوده مع سوريا من اختراق تنظيم داعش وقد تنخرط القوات العراقية بعمليات داخل العمق السوري. فضلا عن الخشية من اتفاق قد يعقد بين الحكومة السورية وداعش كما حدث سابقا يتيح لداعش انسحاب منظم نحو الحدود العراقية مما يشكل عبئا مضافا للحكومة الراقية المثقلة بالأزمات والصراعات.

٣- دول الخليج

الحكومات الخليجية ستصاب بخيبة امل كبيرة من هذا الانسحاب لأنه سيشكل انتصارا مضافا لمعسكر روسيا ايران تركيا سورية وحزب الله فضلا خيبة الامل بسياسات ترامب ووعوده بتحجيم ايران.

٤- الاكراد

في استفتاء اقليم كردستان الذي جرى العام الماضي قلت ان الورقة الكوردية ستستخدم بشكل فاعل من الدول الكبرى في سوريا والعراق وتركيا وايران كأوراق ضاغطة ولكن في النهاية وكما حدث في تجارب تاريخية عديدة بدء باتفاقية سايكس بيكو مرورا بمعاهدة سيفر ١٩٢٠ واتفاقية لوزان ١٩٢٣ واتفاق ١٩٧٥ بين صدام حسين وشاه ايران واستفتاء الاقليم سيكون الكورد هم الضحية في اي اتفاق بين الكبار، وتأكدت هذه المعادلة مرة اخرى عندما ضحى ترامب بالأكراد في سوريا والذي اعلن حمايتهم وتسليحهم لصالح تركيا في الانسحاب الاخير من سورية في ضوء اعطاء ضوء اخر لتركيا ببدء عملية عسكرية في شمال سوريا وملء الفراغ الامريكي بعد الانسحاب.

خاتمة

الانسحاب الامريكي يعني انتصار مضاف لموسكو بعد كوريا الشمالية وشبه جزيرة البلقان وسوريا وتركيا وايضا ربما كسب اصدقاء وحلفاء جدد كقطر واسرائيل التي ربما ستتجه بوصلتها باتجاه موسكو التي تراهن على دور قادم لها في حل القضية الفلسطينية وتأكيد ان مفتاح الحل في سورية يمر عبر اتفاق الآستانة.

اما تداعياته على أمريكا فهو التخلي عن النفوذ الرئيسي لتحقيق تسوية سياسية والتخلي عن اهم مرتكزات الاستراتيجية الامريكية المعلنة لاحتواء إيران في سوريا.

ان الانسحاب الامريكي والتخلي عن الوحدات الكوردية يؤيد ان واشنطن حليف غير موثوق به مستقبلا.

الانسحاب يؤكد ان ايام ترامب في البيت الابيض باتت قريبة في ظل استقالة وانسحاب ٥٢ مسؤول امريكي من ادارته خلال عامين.

اضف تعليق