يستمر الأمر على هذا الحال من حكم الثوار أو العسكر إلى أن تتعاظم أخطاء العسكر ونظامهم الثوري التقدمي التحرري ويزداد الشعب فقرا وبؤسا ولا يجد من مناص إلا الثورة مجددا ولكن هذه المرة على (النظام الثوري) الذي أصبح دكتاتوريا (دكتاتورية ثورية) وأكثر فسادا من النظام القديم...
من مستلزمات وضرورات مرحلة الانتقال من مرحلة الاستعمار إلى الاستقلال أو من الأنظمة الدكتاتورية والاستبدادية إلى أنظمة ثورية أن يتم تشكيل ولمرحلة انتقالية محدودة مجلس قيادة ثورة وتتمركز السلطة في يد قائد الثورة ومجلس قيادة الثورة ويكون هؤلاء بمثابة النخبة الحاكمة أو العليا، إلا أن الذي كان يحدث أن المؤقت يصبح دائما ويستمرئ الثوار كراسي السلطة ومنافعها ويتم تعليق الديمقراطية، إن وجدت أو التهرب منها إن كانت مطلبا شعبيا، والحد من حرية الرأي والتعبير ومطاردة المعارضة... بذريعة أن الوطن ما زال يتعرض للمؤامرات والثورة مهددة من أعدائها ويكون من السهل اصطناع أعداء وهميين.
يستمر الأمر على هذا الحال من حكم الثوار أو العسكر إلى أن تتعاظم أخطاء العسكر ونظامهم الثوري التقدمي التحرري الخ ويزداد الشعب فقرا وبؤسا ولا يجد من مناص إلا الثورة مجددا ولكن هذه المرة على (النظام الثوري) الذي أصبح دكتاتوريا (دكتاتورية ثورية) وأكثر فسادا من النظام القديم في نظر جزء من الشعب. هذا ما كان عليه الحال بالنسبة لبعض الأنظمة (الثورية) في العالم العربي وفي أفريقيا وأمريكا اللاتينية.
مع أنه ومن خلال الواقع العربي يَصعب الحُكم والتمييز بشكل دقيق بين النظام الاستبدادي والدكتاتوري وغير الوطني من جانب والنظام الثوري والوطني من جانب آخر، كما من غير اليسير الحكم بأن هذا النظام ديمقراطي أو غير ديمقراطي حيث انتهى زمن الديمقراطية المثالية وبات مفهوم الديمقراطية ملتبسا، كما أن الحكم على نظام ما إن كان ديمقراطيا أم غير ديمقراطي لم يَعُد يصدر من الشعب ذاته بل من خلال رؤية الغرب وخصوصا واشنطن، وهو حكم ينبني على المصالح وليس المبادئ، كما هو الأمر بالنسبة لتوصيف دولة ما أو جماعة ما إن كانت إرهابية أم لا، حيث يتم السكوت عن أنظمة فاسدة وغير ديمقراطية بل وتدعم جماعات إرهابية إن كانت أنظمة موالية للغرب وإسرائيل، بينما يتم توجيه اتهامات بالفساد وانتهاك حقوق الإنسان للأنظمة المعادية للغرب وإسرائيل حتى وإن كانت تحظى برضا الشعب وتتوفر على المشروعية.
الجدل الذي يصاحب عملية الانتقال السياسي من شرعية إلى أخرى أو من مرحلة التحرر الوطني من الاستعمار إلى مرحلة السلطة والدولة ومن أنظمة استبدادية إلى أنظمة ثورية ليس مجرد جدل مفاهيمي بل يمتد للممارسة، فالانتقال ليس فقط من شرعية نظرية إلى أخرى بل يتطلب أو يفترض أن أدوات واستراتيجيات العمل السياسي تتغير.
هذا الالتباس الذي يصاحب الانتقال من شرعية إلى أخرى أو من حالة سياسية إلى أخرى يوجد نظير له عند حركة التحرر الوطني الفلسطيني ولكن في إطار خصوصية تتميز بها الحالة الفلسطينية.
بدخول منظمة التحرير الفلسطينية مسلسل التسوية وتوقيعها اتفاقية أوسلو وبداية الحكم الذاتي الفلسطيني في مناطق من الضفة الغربية وقطاع غزة عام 1994، عرف المجتمع الفلسطيني تحولات سياسية واجتماعية، فالعملية سعت إلى نقل المجتمع من مرحلة الثورة والنضال إلى مرحلة المراهنة على الحلول السلمية وبالتالي إنهاء حالة الثورة المسلحة والحرب مع إسرائيل مع ما يترتب على ذلك من تغيير في وظيفة المؤسسات التي ظهرت في مرحلة الثورة، كما يتطلب نقل مركز ثقل حركية المجتمع الفلسطيني من خارج فلسطين إلى داخلها، والأهم من ذلك ظهور إرهاصات الديمقراطية من خلال انتخابات رئاسية وتشريعية ووضع قانون أساسي وتغيير الميثاق الوطني المعَبِر عن مرحلة التحرر الوطني ووجود مؤسسات دستورية وسياسية مدنية وقانون انتخابي وتعددية حزبية و تنافس أو تصارع الأحزاب على السلطة.
دون التشكيك بجدارة الشعب الفلسطيني بأن يعيش في دولة ديمقراطية إلا أن أولوية الشعب الخاضع للاحتلال مقاومة الاحتلال وليس الصراع على سلطة تحت الاحتلال، حيث لا يمكن تأسيس نظام دولة ديمقراطية في ظل الاحتلال لأن الديمقراطية تعني سيادة الشعب بينما الاحتلال ينفي سيادة الشعب الفلسطيني ويحد من ممارستها، ولكن هذا لا ينفي أهمية الممارسة الديمقراطية داخل الأحزاب وعند مؤسسات المجتمع المدني وكثقافة سياسية شعبية.
في بداية التحول من مرحلة الثورة إلى مرحلة سلطة الحكم الذاتي تحت الاحتلال كمدخل للدولة المنشودة تباينت مواقف الأحزاب السياسية، ففيما باشرت حركة فتح وأحزاب من منظمة التحرير عملية التحول وشاركت في الانتخابات التشريعية 1994 ثم الرئاسية وأوقفت المقاومة المسلحة قاطعت حركة حماس والجهاد الإسلامي هذه الانتخابات واستمرت في نهج المقاومة بل ورفعت شعار المقاومة بديل عن التسوية السياسية والمفاوضات. منذ نهاية 2004 وافقت حركة حماس على المشاركة السياسية في مؤسسات السلطة عبر صناديق الانتخابات دون أن تعترف رسميا باتفاقية أوسلو أو ببرنامج منظمة التحرير أو تتخلى عن المقاومة المسلحة، وعلى هذا الأساس شاركت في انتخابات البلديات عام 2005 ثم الانتخابات التشريعية في 25 يناير 2006.
هذا التحول عند الطرفين كان يفترض القبول باستحقاقات الديمقراطية وحكم المؤسسات المدنية المنتخبة كناظم للعلاقة بين المكونات السياسية وأن تنتقل السلطة والقيادة من العسكريين والمناضلين إلى السياسيين الذين أفرزتهم صناديق الاقتراع، وأن تُطبع الحياة السياسية بطابع مدني وأن يخضع المستوى العسكري والأمني للقيادة السياسية المدنية ويتم تفعيل مبدأ تبادل السلطة عبر صناديق الانتخابات.
ولكن ولأن الولوج لعالم الديمقراطية كنظام حكم في مناطق السلطة الفلسطينية جاء قبل الاستقلال وقيام الدولة المستقلة، ولأنها ديمقراطية في ظل الاحتلال وتم اختزالها بالانتخابات ولأن العسكريين أنفسهم خلعوا رداء العسكر ولبسوا اللباس المدني، فقد فشلت الانتخابات في إخراج النظام السياسي الفلسطيني من مأزقه بل أصبحت الانتخابات بحد ذاتها موضعا للخلاف، والحكومات التي تشكلت لم تكن تحكم فعليا حيث الحكم الفعلي للعسكر من أجهزة أمنية وجماعات مسلحة، حكم عسكر لحالة ملتبسة لا هي حالة تحرر وطني ولا حالة الاستقلال والدولة، عسكر تحولوا إلى طبقة مصالح ومرتبطين بشبكات ونخب مصالح.
بعد أربع وعشرين سنة من تأسيس السلطة الفلسطينية ومحاولة بناء نظام سياسي ديمقراطي في ظل الاحتلال، وبعد اثني عشر عاما على الانتخابات التشريعية الثانية فإن الواقع يقول بأن السلطة والحكم في مناطق السلطة في الضفة وغزة هي للعسكر الإسرائيلي والفلسطيني، مع تفاوت نسبي ما بين الحالة في قطاع غزة والحالة في الضفة الغربية بالنسبة لدرجة التواجد العسكري الإسرائيلي في المنطقتين وللعقيدة العسكرية عند عسكر غزة وعسكر الضفة، كما يجب إعادة النظر بمقولة : علينا أن نمارس الديمقراطية كأنه لا يوجد احتلال ونمارس المقاومة وكأنه لا توجد ديمقراطية، فهذه مقولة قد تكون صحيحة على مستوى ممارسة الديمقراطية كثقافة وسلوك داخلي عند الأحزاب وداخل المجتمع ولكنها صعبة التحقيق عندما يتعلق بديمقراطية لدولة مستقلة في ظل الاحتلال وخصوصا إن كان الأمر يتعلق بالمقاومة المسلحة لحزب أو أحزاب بدون رؤية أو استراتيجية وطنية شاملة.
اضف تعليق