وفي نيسان عام ١٩٨٠ تعرّض العراق لواحدة من أخطر جرائم التطهير العرقي والطائفي في آن واحد، والتي يصنّفها القانون الدولي حسب تعريفاته وتوصيفاته العالمية، بالجريمة ضد الانسانية، الا وهي جريمة التهجير الجماعية القسريّة ضد الكرد الفيليين، والتي صحبتها ثلاث جرائم اخرى في نفس الوقت، الا وهي؛
١/ جريمة إسقاط الجنسية.
٢/ جريمة مصادرة اموالهم المنقولة وغير المنقولة.
٣/ جريمة احتجاز شباب الأسر والعوائل المهجّرة.
لقد ارتكب الفكر القومجي العنصري الشوفيني هذه الجريمة البشعة بدوافع طائفيّة وعنصريّة في آنٍ واحد، فالكرد الفيليّون تعرّضوا للظلم والقهر بسبب انتماءين، الاول هو اثني، عنصري، والثاني هو مذهبي، طائفي.
فلقد كانوا يتعرّضون للظلم بسبب العنصرية عندما يتعرض كرد العراق لعدوانٍ ما من قبل النظام الشمولي العنصري البائد، كما انهم كانوا يتعرّضون للظلم بدوافع طائفية كلما تعرّض شيعة العراق لظلمٍ من نوعٍ ما من قبل نظام الطاغية الذليل صدام حسين.
ان الظّلم الذي تعرّض له الكرد الفيليون يمثّل صورة الظّلم متعدّد الاوجه والدوافع الذي ظل يتعرض له العراقيون على مدى نيف وثلاثين عاما عجاف.
فضلاً عن ذلك، فانهم اشتركوا مع بقية العراقيين في التعرّض للظّلم بسبب معارضتهم الشّرسة للنظام الديكتاتوري البوليسي وانتماءاتهم السياسيّة وخلفيّاتهم الفكرية والثقافية، بالاضافة الى ولاءاتهم المعروفة للدين ومؤسسته الرئيسية واقصد بها المرجعية الدينية،
وبكلمة، فانهم تعرّضوا لظلم تراكم لدوافع عدة، فكان الثمن الذي دفعوه باهظاً جداً، وللاسف الشديد!.
وليس بالإمكان المرور على ظاهرة التهجير القسري التي تعرّض لها الكرد الفيليون بهذه العُجالة، فانّ مجرّد نقل صور الظاهرة وطرق تنفيذها على يد ازلام النظام العنصري والطائفي البائد بحاجة الى مجلّدات ومجلّدات، كما انّ ملايين الافلام والمسلسلات والافلام الوثائقية لا تكفي لتغطيتها ابداً.
لقد كان النظام الشمولي البائد قد خطط لتحقيق الأهداف الدنيئة التالية بجريمة التهجير القسري، منها؛
اولاً؛ اجراء تغيير ديموغرافي واسع، يغيّر الوجه الحقيقي للمجتمع العراقي على الصعيدين الاثني والمذهبي.
ثانياً؛ لقد خسر العراق بهذه الجريمة الكثير جداً من طاقاته وكفاءاته وخبراته، فمن المعروف ان للكرد الفيلية دور مهم وبارز في العراق وعلى مختلف الاصعدة.
كما انّ فيهم العلماء والمهندسين والأطباء والأخصّائييّن والقادة السياسيّين والمفكّرين والكتّاب المرموقين والاعلاميين البارزين والتجّار الكبار الذين لهم دور مهم في تكريس عملية التكافل الاجتماعي في العراق، ودعم المؤسسة الدينية وجلّ الاحزاب السياسية بمختلف التوجّهات.
ثالثا؛ كما دمّر النظام الشمولي، بهذه الجريمة، الاقتصاد العراقي، لما يتمتع به الكرد الفيلية من مكانة اقتصادية مهمة في العراق.
لقد شرعن النظام بهذه الجريمة للّصوصيّة والسرقة، عندما طرد ملايين المواطنين من ارض آبائهم وأجدادهم ليستولي على احجام غير متناهية من الأموال والأملاك!.
اما جريمة إسقاط الجنسية، فهذه واحدة من اخطر الجرائم التي ارتكبها الطاغية الذليل ضد العراقيين عندما يسلب المواطنة والانتماء الوطني من احدهم، فما بالك من شريحة اجتماعية كاملة، وهم الكرد الفيلية؟.
ليس من حقّ أحدٍ ان يسلبَ هذا الحق من أحدٍ ابداً، خاصة اذا كان الحاكم مشكوك في اصله وفصله؟ مثل الطاغية الذليل صدام حسين الذي لم يُعرف له عرقٌ سليم وصحيح في العراق؟!.
انّ سلب المواطنة تارة وإجبار المواطن على تغيير قوميته بالعنف والاكراه تارة اخرى، وإجباره الى الانتماء الحزبي تارة ثالثة، ان سياسة الجبر والاكراه والفرض بالقوة لتحديد ما لا يمتلك حتى المواطن الخيار في تحديده، يُعتبر احد اخطر السياسات التي ظلّ ينتهجها الفكر العروبي والقومي الشوفيني على مدى نيف وثلاثين عاما، ما ساهم في تحطيم المجتمع من الداخل.
الى جانب الكُرد الفيليّين، تعرّضت ثلاث شرائح أخرى لظلمٍ مماثل، وهي؛
١/ الأُسر الشيعيّة التي ظلّ النّظام البوليسي يطعن بأصولها ويشكّك بولائِها وانتمائِها، عندما هجّرها قسراً بعد ان استولى على اموالِها المنقولة وغير المنقولة، في عملية سطو (نظاميّة) استندت الى قرارات قرقوشيّة لم يشهد التاريخ مثيلاً لها، واحتجز ابناءها من الشّباب، والذين لم يُعثر على ايّ أثرٍ لهم لحّد الان، حتى بعد مرور (١٢) عام على سقوط الصنم في التاسع من نيسان عام ٢٠٠٣!.
٢/ أُسر المجاهدين الذين اعتقلهم ازلام الطاغية وأودعهم السجون والمعتقلات، ليسفّروا عوائلهم قسراً، ليتبيّن لها، فيما بعد، انّ ابناءها قد استشهدوا صبراً تحت التّعذيب، فيما عُدّ الكثير منهم مفقودي الأثر لحدّ الان وفيهم كبار العلماء والفقهاء من امثال اية الله السيد صادق القزويني الذي جاوز الثمانين عاماً عندما اعتقله ازلام الطاغية، ولم تعثر أسرته على اي أثرٍ له لحد الان.
٣/ امّا الشريحة الثالثة فهم المجاهدون من ابناء الحركة الاسلامية، من الذين اضطرتهم الظروف القاسية الى الهجرة الى خارج العراق، إثر آخر اعتقال تعرّض له الشهيد الصدر الاول (٤ نيسان ١٩٨٠) وشنِّ النظام لحملة اعتقالات واسعة جداً شملت مئات الالاف من ابناء الحركة الاسلامية المجاهدة، وفيهم، كذلك، عدد كبير من العلماء والفقهاء، وفيهم من ناهز التّسعين من عمُرهِ كآية الله الشهيد السيد قاسم شبر، وطلبة العلوم الدينية ومختلف الاختصاصات العلمية والطلبة والموظفين، ولم تستثنِ حملة الاعتقالات الشعواء هذه المرأة المجاهدة اذ اعتقل ازلام النظام الالاف المؤلفة منهنّ، تعرّضن في سجون الطاغية لشتى صنوف التّعذيب قبل ان يتم تصفيتهن إمّا تحت التعذيب القاسي او بالإعدام، كالشهيدة البطلة سلوى البحراني!.
كما شمِلت حملات الاعتقال الظّالمة أُسر بكاملها، كما هو الحال بالنسبة الى الشهيد المجاهد البطل سالم جليل النجار، الذي اعتقلهُ ازلام الطّاغية الذليل مع زوجته وطفله الوحيد (فراس) الذي لم تتجاوز اعوام عمُرهِ عدد أصابع اليد الواحدة! ليعدمهم النظام فيما بعد! من دون ان تعثر أسرته على اي أثرٍ لهم كذلك.
كما ارتكب النظام الشمولي البائد بحق كل هؤلاء جريمة إسقاط الجنسية العراقية، وكأنّه هو الذي منحهم الجنسية ليقرر انتزاعها منهم وقت يشاء، ليسحق بمثل هذا القرار الجائر ابسط حقوق الانسان، خاصّة وان جلّ من أُسقطت جنسيّتهُ كان قد قضى افضل سني عمره يخدم في القوات المسلحة العراقية، وفيهم من خاض عددٍ من الحروب المقدّسة في فلسطين، على الرغم من المشاركة المتواضعة للعراق في تلك الحروب والتي ارادها النظام الشمولي البائد والانظمة السياسية التي سبقته في السلطة مشاركات اعلاميّة للدعاية واستعراضية للمتاجرة بالقضية الفلسطينية المقدسة آنئذ!.
لقد خسر العراق بسبب هذه الجرائم بنيتهُ التحتيّة الحقيقيّة، فالاوطان يبنيها البشر، والدول تشيدها العقول، والتّنمية والبناء يقيمه العلماء والأخصائيّين، والمجتمع يرشّده المفكرون والمثقفون، وكلّ هؤلاء خسرهم العراق عندما طردهم النظام البوليسي الى خارج البلاد او غيّبهم في دهاليز السّجون والمعتقلات او غيّبهم تحت الارض!.
ان مختلف دول العالم تمتلئ اليوم بالاف الكفاءات والخبرات واصحاب الشهادات العالية، وجلهم ممن غادروا العراق في تلك الحقبة التاريخية السوداء التي شهدتها بلاد الرافدين.
ان الدول المتحضّرة تتنازع على احقيّة الاحتفاظ بمولودٍ اذا وُلد على متن طائرة في اجواء دولتين متجاورتين، كلٌّ تدّعي ان المولود من حصتها، وانها احقُّ به من جارتها، امّا العراق، في ظل النظام القومجي العروبي العنصري والطائفي، فكان يتخلص من شعبه زرافات زرافات، فأي تخلّف هذا الذي يعشعش في ذهنية هذا النوع من الفكر والثقافة؟!.
ان ّقراءة بسيطة لخلفيّات الشُّهداء والسُّجناء والمغيَّبين والمسفَّرين والمهاجرين في ذلك (النيسان العراقي) المشؤوم، فسيكتشف ايّ منصفٍ انّ دوافع النظام الشمولي في ارتكاب تلك الجرائم والمجازر كانت عنصرية وطائفية بامتياز، لان طبيعة الفكر العروبي القومجي عنصرية وطائفية بلا منازع! فطبيعة الجريمة من سنخ طبيعة الفكر والثقافة بلا شكّ، أليس كذلك؟!.
اضف تعليق