عندما نسمع أن مؤسسة عالمية تؤكد للسنة الثانية على التوالي تصدّر العراق في قائمة الدول الأكثر عطاءً وكرماً للغرباء، فهذا يعني أن ثمة طاقة ايجابية كامنة في هذا الشعب بحيث تجعله يتسامى فوق جراحه ويتجاوز أزماته ليستند الى أصوله وجذوره الثقافية...
عندما نسمع أن مؤسسة عالمية تؤكد للسنة الثانية على التوالي تصدّر العراق في قائمة الدول الأكثر عطاءً وكرماً للغرباء، فهذا يعني أن ثمة طاقة ايجابية كامنة في هذا الشعب بحيث تجعله يتسامى فوق جراحه ويتجاوز أزماته ليستند الى أصوله وجذوره الثقافية.
مؤسسة المساعدات الخيرية العالمية "CAF" تنبهت الى مواسم الزيارات المليونية الى مراقد الأئمة الاطهار في العراق، وكيف ان الناس يتسابقون للعطاء وإكرام الزائرين من شتى بقاع العالم، دون أي سابق معرفة بهم، وهو ما أثار المراقبين على وجه الخصوص، هذا الإعلان الذي جاء عام 2016 من شأنه تعزيز القناعة لدى الكثيرين بأن العراقيين غير مسكونين بالطاقات السلبية، كما يخيل للبعض، وربما الازمات السياسية والاقتصادية وتداخل عواملها بين المجتمع والدولة، خلق هذا التصور السلبي المطبق بان العراقي ليس جديراً سوى بركوب الموجات السياسية واستساغة الفوضى، حتى ذهب البعض الى أبعد من ذلك، عندما ربط بين الحراك الجماهيري المطلبي في فصل الصيف، حيث ارتفاع درجة الحرارة، وبين الحالة النفسية المتأثرة بارتفاع درجات الحرارة! والحديث الغريب عن حصول معظم الانقلابات العسكرية في العراق في شهر تموز، علماً إن حقائق التاريخ تؤكد ايضاً، إن في شهر تموز سواءً؛ عام 1958، او عام 1968، لم تحصل ثورات جماهيرية، إنما انقلابات عسكرية وحسب.
هذه الصورة النمطية هي التي تحول الطاقات الانسانية الى الجانب السلبي ثم تقتل الابداع باليأس والاحباط وعدم الثقة بكل شيء بدعوى "النظرة الواقعية"، وهي في حقيقتها نظرة قشرية لا تنفذ الى أعماق نفس الانسان لتكتشف مكنوناته ودفائنه، وربما لا يُلام من يروج لهذه الروحية بين الناس لعجزه الاستلهام من الانبياء والمصلحين، الذين أثاروا دفائن عقول الناس برسالتهم السماوية والقيم والمبادئ والنظم التي جاؤوا بها.
في خضم الاجواء الملبدة بالازمات، يبدو الحديث عن مراكز تنمية بشرية، ومراكز رعاية المبدعين، ودورات تثقيف وتوعية للطلبة والشباب، امراً بحاجة الى شجاعة فائقة، فضلاً عن جهود جبارة ومثابرة وإصرار على التحدي، وهذا ما نلاحظه في القليل من مواقع التواصل الاجتماعي التي تبدو كنقطة ضوء وسط ظلام دامس من الحديث عن الطريق المسدود الذي وصلته البلاد بسبب الفساد الاداري والفوضى السياسية وغياب القانون والخدمات وكل ما من شأنه رسم صورة مظلمة هي أقرب الى الموت منها الى الحياة، وهذا يمثل اجحاف بحق الطاقات الخيّرة الكامنة في نفوس الشباب الذي يعد نفسه الأقدر بين افراد المجتمع على فعل الكثير، وهذه مهمة الحوزات العلمية والمؤسسات الثقافية في الإكثار من الدورات التثقيفية والتأهيلية و ورش العمل، لتقريب النظريات والافكار الى الواقع العملي.
خلال فترة العطلة الصيفية، بادرت مؤسسات ثقافية الى إقامة دورات تثقيفية وتنموية للطلاب من الجنسين، تضمنت برامجها على التوعية الدينية والاخلاقية، وايضاً التنمية البشرية ورعاية المواهب وتنمية الطاقات الايجابية ثم بناء شخصية متوازنة تحمل معها كل عوامل البناء والإصلاح على الاصعدة كافة.
إن شريحة الشباب، وتحديداً طلبة المدارس والجامعات بحاجة الى أرقام كبيرة من الدورات تعزز في نفوسهم الايمان والثقة بالنفس انطلاقاً من قواعد رصينة، أبرزها القرآن الكريم ونهج البلاغة وسيرة الأئمة المعصومين، وتجارب العلماء الناجحين، ومن خلال جولة على بعض هذه الدورات يتضح مدى تفاعل هؤلاء الطلبة مع ما يتلقونه من مناهج تربوية وتعليمية يجدونها تتعاضد مع المناهج التعليمية التي يتلقونها في المدارس والجامعات.
وهذا يعود الى تطابق المنهج الاسلامي في بناء الشخصية الناجحة مع القدرات الانسانية، فنجد الآيات القرآنية تحثّ الانسان على العمل والتنافس والتحدي، فيما نجد الروايات عن الأئمة المعصومين تحفز على الثقة بالنفس وتنمية القدرات الذاتية، فهنالك الاحاديث الوافرة التي تتحدث عن الانسان الفطن وقوي القلب، والشجاع، والمتطلع الى المستقبل الأفضل، ولعل الاحاديث الواردة عن أمير المؤمنين، عليه السلام، تكون خير دليل على ما نذهب اليه، ومنها؛ الحديث الشهير: "أتحسب أنك جرمٌ صغير وفيك انطوى العالم الأكبر"، وحديث الامام الصادق، عليه السلام، "قلب المؤمن كالجبل، وإن من الجبل ما يُقدّ منه وقلب المؤمن لا يقدّ منه"، بل الحديث النبوي الشريف الذي يمثل باكورة الدعوات لبناء الشخصية الانسانية في المجتمع الاسلامي عندما قال: "لو كانت بيد أحدكم فسيلة شجرة ثم قامت القيامة، فليزرعها في الارض".
بهذه الروحية العالية يمكن خلق فرص للابداع لتغيير الواقع السيئ الى ما هو افضل في المجالات كافة، من تخطيط وإدارة وإنتاج، وهذا ليس من المثالية في شيء، لاسيما في بلد مثل العراق، يمتلك بالاساس فرص التقدم الجاهزة، مثل الثروة النفطية والثروة المائية، والارض الخصبة، الى جانب الإرث الديني العظيم المتمثل بالمراقد المقدسة.
اضف تعليق