إن الخطورة الكامنة على حقائق تاريخنا الجهادي، تنذر بتهديد حقائق نعيشها اليوم بصفحات بيضاء، ولكن ربما لا تصمد أمام التشويه والتحريف في قادم الأيام، فالجميع اليوم يقرّ بدور المرجعية الدينية وفتواها الجهادية في دحر عناصر داعش وإنقاذ العراق من خطر رهيب، وهذا بحكم الواقع الملموس غير القابل للإنكار...
في إحدى مدارس الابتدائية بالعراق، خرج معلم التاريخ من غرفة الدرس وقد استشاط غضباً على التلاميذ لقلّة استيعابهم للمادة وكثرة العلامات المتدنية، ثم عاد ومعه مدير المدرسة ليعينه على التأنيب والتعنيف! فما أن دخل المدير و رشق التلاميذ بنظراته الحادة، واراد أن يستفهم المشكلة من أحد التلاميذ في الصف الأول بأن؛ ما مشكلتكم مع درس التاريخ؟! فنهض احدهم مستأذناً وقال بعفوية:
انها مادة صعبة وجافة أيها الاستاذ.
فاسكته المدير بكلمات تقريعية متداولة في الاسواق والاماكن العامة! وقال له:
"... لو ان فيلم الرسالة مطبوعٌ في الكتاب لحفظتموه على ظهر القلب"!
صحيح أن التاريخ كموضوع، وكمادة دراسية، يتصف بالجمود مما ينفّر الكثير منه في مجتمعاتنا الشرقية، ولذلك اسباب نفسية في ذات الانسان الشرقي لسنا بوارد الخوض فيها، فالتعارض واضح بين التسرّع والعاطفية وأفق التفكير الضيق، وبين طبيعة التاريخ ذو الأفق الواسع الذي ينقل تجارب الأمم، وينقل العِبر والسنن الإلهية، ولكن؛ هذا التاريخ يمثل جزءاً مهماً في المنظومة الثقافية لأي شعب في العالم، وقد أكد أكثر من باحث وعالم بأن "الشعب الذي لا تاريخ له لا مستقبل له"، وقد ترك الإهمال، وعدم الاهتمام ثغرة ينفذ اليه التزوير وإخفاء الحقائق على طول الخط لتوظيفه ضمن المنظومة الثقافية والسياسية لهذا النظام السياسي او ذاك.
ثورة العشرين والثورات الوهمية الاخرى
الثورات الجماهيرية تمثل نقطة لامعة في تاريخ الشعوب والأمم في مسيرة التغيير، فهي تعبر عن إرادة وعزم وإيمان بالقيم العليا، وتاريخ العراق مليء بالثورات والانتفاضات الجماهيرية المتصلة بالنهضة الحسينية في أرض كربلاء عام 61للهجرة، وفي التاريخ الحديث تحتل ثورة العشرين مكانة خاصة كونها اندلعت في ظروف اجتماعية وسياسية أقل ما يقال عنها أنها استثنائية، حيث كان العراقيون المنتفضون يواجهون قوة عسكرية عظمى مثل بريطانيا خرجت للتوّ منتصرة على آخر دولة اسلامية كبرى (الدولة العثمانية)، وكان سلاحهم الوحيد؛ الايمان العميق بقيم الحرية والاستقلال، وايضاً بالقيادة العلمائية الحكيمة المتمثلة بالمرجع الديني الاعلى آنذاك؛ الشيخ ميرزا محمد تقي الشيرازي، مما جعلهم يسترخصون الدماء ويندفعون باسلحتهم البدائية البسيطة ليقاتلوا الجيش البريطاني المدرب والمجهز بمختلف الاسلحة.
هذه الثورة الجماهيرية بنواياها الصادقة، وتضحياتها الجسيمة، وقيادتها الحكيمة، وما تخللتها من تحديات وضغوطات، أسهمت في ظهور الدولة العراقية الحديثة وأجبرت الدولة البريطانية بكل جبروتها الاستعماري آنذاك لأن تذعن للإرادة العراقية بتشكيل دولة مستقلة يتزعمها رجل مسلم، ومن ثم تتشكل الحكومة العراقية ومؤسسات الدولة، مثل الجيش والقضاء ومجلس النواب.
ولكن السؤال؛ أين كانت هذه الثورة الجماهيرية من منظومة الثقافة العراقية طيلة العقود الماضية؟ وهل سمع طلبة المدارس وشرائح اخرى في المجتمع العراقي بشخص اسمه ميرزا محمد تقي الشيرازي، وانه كان قائداً لهذه الثورة بفتواه الجهادية؟
ربما أجزم، أن لو لم يسقط نظام صدام عام 2003، لما سمع العراقيون باسم هذا المرجع الكبير وبقيادته لثورة العشرين، ولا عرف أن في تاريخه الحديث فتوى دينية كتبت تاريخاً جديداً له، لان وجود مرجع دين في قمة القيادة السياسية والاجتماعية يتقاطع مع طموحات الاحزاب السياسية التي ظهرت فيما بعد، ولذلك وجدنا الترويج لاشخاص على أنهم قادة الثورة مثل؛ السيد محمد سعيد الحبوبي، او شعلان ابو الجون، وغيرهم من الشخصيات العشائرية، علماً أنهم كانوا قادة ميدانيين ومصاحبين للمرجع الشيرازي، وكانوا يداومون على الاجتماع به للتباحث بشأن الثورة المسلحة ضد البريطانيين.
هذه الفجوة في الذهنية التاريخية للعراقيين جعلتهم يعتقدون بأن ما حصل عام 1958، وعام 1968، وحتى ما حصل عام1941، فيما يُعرف بـ "ثورة مايس" على أنها ثورات جماهيرية شارك فيها الشعب العراقي، رغم أن من كتبوا تاريخ العراقي الحديث في المناهج الدراسية وثقفوا له، يدركون مستوى وعي الشارع وأنه يرى بأم عينيه كيف أن دخول ضباط الجيش الى الحياة السياسية والاجتماعية تسبب في انتشار ظواهر سلبية ومفاسد جمة، ليس أقلها؛ إشاعة ثقافة العنف والقسوة، والابتعاد تدريجياً عن قيم الاخلاق والدين، واستبدالها بالقيم المادية والمصالح الآنية.
فتوى الجهاد الجديدة وحقوق الاجيال القادمة
بالرغم مما قيل وكُتب عن ثورة العشرين طيلة السنوات الماضية، بيد أن الافتقار الى العلمية والتوثيق الدقيق واضح على المستوى المعرفي للاجيال المتعاقبة، لاسيما الجيل الجديد، فحتى اليوم ماتزال ثمة مساعي لتحريف الحقائق او تغييبها، لاسيما ما يتعلق بمسألة فتوى المرجعية الدينية ودورها في تعبئة الجماهير وصنع الاحداث الكبيرة.
وما يدفع نحو هذا المسعى، أخطاء علمية سقط فيها بعض المؤرخين باعتمادهم على مصادر بريطانية لفهم الاحداث والمواقف والتحركات أيام ثورة العشرين، مثال ذلك اتهام نجل المرجع الديني وقائد الثورة، السيد محمد رضا الشيرازي بميوله الى البلاشفة الروس، والدليل على ذلك عدائه للبريطانيين! وهذا ما تناقلته رسائل الشخصيات البريطانية من العراق الى لندن، بين سياسي، وجنرال في الجيش يتحدثون عن هذه الفرية، بينما كان بالامكان الاستعانة بمصادر عراقية محايدة مثل شخصيات عشائرية وأدبية واجتماعية بعيدة عن أجواء الحوزة العلمية يؤكدون حقيقة انتماء نجل المرجع الشيرازي، وجهوده الوطنية لنشر الوعي والثقافة من خلال الجمعية التي أسسها وبارك لها والده المرجع الديني الأعلى في حينه.
إن الخطورة الكامنة على حقائق تاريخنا الجهادي، تنذر بتهديد حقائق نعيشها اليوم بصفحات بيضاء، ولكن ربما لا تصمد أمام التشويه والتحريف في قادم الأيام، فالجميع اليوم يقرّ بدور المرجعية الدينية وفتواها الجهادية في دحر عناصر داعش وإنقاذ العراق من خطر رهيب، وهذا بحكم الواقع الملموس غير القابل للإنكار، أما بعد مضي عقد من الزمن، او عقدين وثلاثة، الى جيل كامل، لا يضمن أحد بقاء هذه الحقائق على حالها اذا لا يُصار الى توثيق دقيق لمجريات الاحداث المتعلقة بفتوى الجهاد الكفائي التي أصدرها المرجع الديني الأعلى السيد علي السيستاني –دام ظله- منذ الايام الاولى لظهور جحافل داعش في الاراضي العراقية، وحتى اجتياحهم للمدن العراقية واحتلالهم حوالي ثلث الاراضي العراقية، وتهديدهم العاصمة بغداد والمدن المقدسة.
ان الدراسات والبحوث والمقالات وما تضمه دفات الكتب لها دورها الكبير في عملية التوثيق، بيد أن الوسيلة الاكثر تأثيراً على الواقع الاجتماعي والثقافي؛ المناهج الدراسية، ومنها مادة التاريخ التي يجب أن تتضمن فصول خاصة عن الثورات الجماهيرية التي عبرت عن عمق الوعي السياسي، وعن الإرادة الصلبة في مواجهة التحديات لتحقيق الحرية والاستقلال والكرامة الانسانية، واذا ما يرى الناس من عزم وروح جهادية وثابة لدى الشباب العراقي وتضحياتهم، فانها مستلهمة من تلك التجارب الجهادية للآباء والأجداد منذ حوالي قرن من الزمن، ولعل من تلك التجارب غير البعيدة؛ الانتفاضة الشعبانية عام 1991، وقبلها انتفاضات جماهيرية حصلت في سني السبعينات انطلاقاً من شعائر حسينية، منها شعيرة زيارة الإمام الحسين، عليه السلام، فرغم محدودية الحراك الجماهيري آنذاك، بيد أن العمق الثقافي والديني لانتفاضة صفر عام 1977 كان في القرار الشجاع لجموع من الزائرين مشياً على الاقدام، بمواجهة الحظر والتهديدات التي أصدرها نظام حزب البعث آنذاك، فسقط عدد كبير من الشهداء والجرحى، الى جانب اعتقال عدد كبير من الشباب الرسالي.
وقبل الختام يمكننا القول: أن مادة التاريخ في مدارسنا ستشهد حيوية وطراوة بصور الملاحم والتضحيات البطولية لابناء العراق الغيارى على طول الخط ضد الديكتاتورية والظلم والطغيان، وتعلم الجيل الجديد والاجيال القادمة أن الحرية التي ينعمون بها، والخير والرفاهية وحتى التطور العلمي والتقدم لم يكن ليتحقق لولا تلكم التضحيات الكبيرة، وذلك الإيمان العميق بالقيم الدينية والانسانية.
اضف تعليق