في زمن العولمة والثورة المعلوماتية وتحول موائل الثروة فإن من يملك المال والثروة والمكانة الاجتماعية المقرونة غالبا بالثروة هم الذين يفوزون بالانتخابات ويتحكمون بمصير البلد وتوجيه الماكينة الانتخابية بما يتوافق مع إرادة الأقوياء ولا يُستثنى من ذلك الدول الديمقراطية، ولكن في هذه الأنظمة...

متلازمة السياسة والمال أو السلطة والثروة لا تخرج عن منطق وتعريف السياسة الواقعية كصراع على المصالح والنفوذ، إلا أن هذه المتلازمة تخرج عن سياقها كإحدى آليات ممارسة السلطة وتتحول لمثلبة سياسية وأخلاقية عندما تتغول الثروة على السلطة باعتبار هذه الأخيرة منظومة متكاملة من القانون والأخلاق والمصالح تعمل من أجل المصلحة العامة.

هذه الظاهرة صاحبت الحياة السياسية الداخلية والدولية منذ ظهور السلطة والدولة وفي جميع المجتمعات: المتقدمة والمتخلفة، الديمقراطية وغير الديمقراطية، الغنية والفقيرة، كما إنها ظاهرة عابرة للحدود والأيديولوجيات مع تفاوت بطبيعة الحال من مجتمع لآخر وهو تفاوت يعود لوعي الشعب ومدى التقدم في مجال الديمقراطية والحكامة.

كثير من القضايا الخلافية وأوجه الصراع الداخلي أو الدولي والتي تحتار عقول المحللين والباحثين في استجلاء مكنوناتها وفك رموزها، يمكن الاقتراب من فهمها لو بحثنا عن شبكة المصالح ودور المال السياسي، وكما يقول المثل عندما تستعصي مشكلة (أبحث عن المرأة)، يمكن أيضا القول اليوم في عالم السياسة (ابحث عن المال السياسي).

صحيح، إن السياسة وخصوصا الواقعية والتي تسود في عصرنا تؤَسَس على المصالح أو أنها الصراع على المصالح. في السياسة الخارجية صراع حول ومن أجل المصالح القومية، وفي الداخل صراع بين المكونات والفئات الاجتماعية والأشخاص –طوائف وثقافات فرعية ونقابات الخ- إلا أن الصراع في الحالتين يجب أن يخضع للقانون ويلتزم بالمعايير الديمقراطية للمنافسة.

عندما يتم تجاوز القانون الدولي والشرعية الدولية بالنسبة للصراعات الدولية يتم وسم سلوك الدولة بالعدوان أو سلوك استعماري وامبريالي، وعندما يتم تجاوز القانون الداخلي من طرف الحكام لتعزيز واستمرار سلطتهم يتم وسم النظام بأنه نظام استبدادي أو دكتاتوري، وإن تم تجاوزه من طرف رجال السلطة ومن أصحاب الثروة والجاه يتم الحديث عن الفساد السياسي.

فعلى مستوى الحياة السياسية الوطنية فإن القول بأن دولة ما ديمقراطية والديمقراطية تعني (حكم الشعب) لا يعبر إلا نسبيا عن حقيقة السلطة والحكم فيها ولا يعني أن الشعب يحكم بالفعل، فمن يحكم بالفعل نخبة المال والاقتصاد ذات القدرة على توجيه الرأي العام من خلال التحكم بمصادر الثروة ووسائل الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعي، والتحكم بالماكينة الانتخابية وخصوصا أن الحملات الانتخابية اليوم وخصوصا الرئاسية تكلف ملايين الدولارات وهو ما لا يقدر عليه المواطنون العاديون.

في زمن العولمة والثورة المعلوماتية وتحول موائل الثروة فإن من يملك المال والثروة والمكانة الاجتماعية المقرونة غالبا بالثروة هم الذين يفوزون بالانتخابات ويتحكمون بمصير البلد وغالبا ما يتم توجيه الماكينة الانتخابية بما يتوافق مع إرادة الأقوياء ولا يُستثنى من ذلك الدول الديمقراطية، ولكن في هذه الأنظمة يقف القانون والوعي الشعبي كابحا لأي تمادي للنخب ولسلطة المال، وما يشفع لهذه الأنظمة أن المال يقترن بالعلم والمعرفة أكثر مما هو مقترن بالفساد السياسي.

الفساد السياسي الناتج عن اقتران المال بالسياسة أو السلطة بالثروة قد يأخذ طابعا اخلاقيا كالفضائح الجنسية لمسئولين كبار في الدولة كما جرى مع الرئيس كلنتون من مونيكا لوينسكي والفضائح الاخلاقية للرئيس ترامب أيضا فضائح الاغتصاب لرئيس إسرائيل السابق موشيه كاتساف والتي تم الحكم عليه بالسجن سبع سنوات وفضائح أخرى لزعماء ومسئولين في أكثر من بلد، وقد يأخذ الفساد طابعا ماليا عندما يتم توظيف المواقع السلطوية أو سلطة المال لتحقيق أهداف خاصة بعيدا عن القانون وخروجا وتحايلا على مقتضياته، كما هو الحال اليوم مع فضائح فساد نتنياهو، إلا أن أخطر وأسوء اشكال الفساد السياسي المقترن بالمال عندما يتصرف سياسيون بوعي منهم ضد مصالح أوطانهم من أجل المال والمصالح الشخصية، في هذه الحالة نتحدث عن الخيانة الوطنية.

عند الأنظمة غير الديمقراطية أو التي تتلمس خطواتها نحو الديمقراطية كما هو الحال في الدول العربية فهذه الأنظمة تستمد مبرر وجودها أو شرعيتها في الحكم مما في يدها سلطة مستمدة من الثروة التي تحصلت عليها إما بالوراثة أو عن طريق انقلابات عسكرية أو من الاقتصاد الريعي، وكل الحديث عن شرعيات أخرى دينية أو ثورية أو وطنية أو دستورية انتخابية مجرد لغو. في العالم العربي يلعب المال السياسي دورا مهما في الحياة السياسية وهو الذي يقف وراء أغلب أشكال الفساد السياسي والأخلاقي والمالي بل هو وراء انهيار مجتمعات وتفكيك دول.

في العالم العربي لم يعد التأييد الشعبي أو إرادة الأمة أو البرنامج السياسي والاجتماعي مصدر قوة الحزب أو الشخص الذي يتبوأ مركز السلطة أو يسعى لها بل ما يملك من مال وثروة ومن سند خارجي يدعمه بالمال أو السلاح، بحيث يجوز القول بأن التموضعات والتوازنات السياسية داخل البلد واستقراره السياسي لم يعد مصدرها عقد اجتماعي يمثل إرادة الأمة أو المظاهر الشكلانية للديمقراطية بل قوة المال وتوازنات إقليمية ودولية، وبما يستطيعه المال من سلاح وشراء ذمم وإخضاع بالإكراه الخ.

حتى في الدول التي تجري فيها انتخابات نلاحظ أنه نادرا ما يهتم المواطن بالبرنامج السياسي للأحزاب والشخصيات المرشَحة للانتخابات بل يهتم بالشخصيات نفسها من حيث مكانتها الاجتماعية وثروتها وما يمكن تحصيله منها من منافع مادية خلال الحملات الانتخابية أو بعدها، كما أن الأحزاب نفسها لا تهتم كثيرا بصيغة البرنامج السياسي لأنها تعرف أن غالبية الشعب لا تقرأ البرامج السياسية والتي غالبا تكون متشابهة في ظل انهيار الأيديولوجيات الكبرى، بل تشتغل الماكينة الانتخابية لغالبية المرشحين على خطاب ديماغوجي يتحدث عن المثاليات ويُغدق وعودا كاذبة بالعمل والوظيفة كما تشتغل الماكينة الانتخابية على كيفية شراء ذمم الناخبين.

المُستجد في الأمر تغوّل المال السياسي على الأخلاق والقوانين السياسية الوطنية والدولية ودخوله مجالات جديدة، ويمكن رصد أربعة مجالات استجدت على الظاهرة:-

1- توظيف من يملك المال والثروة لتقنيات الثورة المعلوماتية –فضائيات وشبكات تواصل اجتماعي الخ - للتأثير على الرأي العام والتلاعب بعقول الناس ليس فقط على الرأي العام الداخلي بل أيضا على الحياة السياسية وعلى العملية الانتخابية لدول أجنبية. مثال ذلك الاتهامات التي وجهتها بعض الجهات في واشنطن لموسكو متهمة إياها بالتأثير على الانتخابات الرئاسية، أيضا ما يروج من حديث عن تأثير المال الخليجي في اللعبة السياسية وخصوصا السياسة الخارجية لإدارة ترامب، وتوقيف الرئيس الفرنسي الأسبق ساركوزي بتهمة تلقي رشاوى من القذافي خلال حملته الانتخابية.

2- إفساد المال للحياة السياسية لم يقتصر على الدول المستقرة والمستقلة بل تجاوزها إلى بعض حركات التحرر والقوى المعارضِة للأنظمة والتي تبرر وجودها بمقاومة فساد الأنظمة، حيث إن فساد هذه الجماعات وكما ظهر في فوضى الربيع العربي لا تقل عن فساد الأنظمة وتأثير المال السياسي الخارجي في رسم وتوجيه سياسات هذه الجماعات لا يقل عما هو موجود عند الأنظمة.

3- التوظيف الفج والعلني للمساعدات التي تقدمها الدول الكبرى للدول الصغيرة كأداة ضغط وابتزاز للتأثير على مواقفها السياسية في القضايا الدولية وقطع المساعدات عنها في حالة اتخاذها مواقف مخالفة لمواقف الدول الكبرى، ونموذج ذلك قطع أو التهديد بقطع المساعدات التي تقدمها واشنطن للدول التي صوتت في الجمعية العامة للأمم المتحدة لصالح الفلسطينيين وضد السياسة الأمريكية بخصوص القدس.

4- ما يقوم به الرئيس الأمريكي ترامب من ابتزاز لدول الخليج من خلال إعلانه أن على دول الخليج ان تدفع مقابل حماية واشنطن لها.

5- لم تعد الديمقراطية تنافس حر بين أحزاب على أصوات الشعب على أساس برامج سياسية واقتصادية واجتماعية، بل صراع بين نخب المال والثروة يتم فيها توظيف الماكينة الانتخابية للوصول إلى السلطة.

وأخيرا فإن الديمقراطية اليوم انفصلت عن مضمون دلالتها اللغوية (حكم الشعب) وأصبحت آلية للصراع على السلطة بين نخب المال والثروة أو حكم نخب المال والنفوذ بواسطة الشعب، حيث لم يعد أمام الشعب إلا أن يختار الأقل سوء من هذه النخب.

Ibrahemibrach1@gmail.com

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق