بلغ التفتت المجتمعي في بلداننا العربية حداً مزرياً، لا أحسب أن المائة عام الماضية، شهدت وضعية مماثلة لما آل إليه "النسيج المجتمعي" والهوية الوطنية الجمعية لشعوبنا ومجتمعاتنا، من تهرّءٍ وتفكك وانحطاط... أتابع عن كثب "حفلات الردح" بين عرب سوريا وأكرادها، وهي تشبه إلى حد كبير الهتافات الهابطة التي يتبادلها جمهورا الوحدات والفيصلي في لقاءاتهما المزعجة، وقبلها كان المشهد أكثر إزعاجاً بين عرب العراق وكرده، وسنته وشيعته.
كل ما يمكن أن يخطر بالبال، من سباب وشتائم مقذعة، واتهامات بالخيانة والعمالة والزندقة تجدها مبثوثة، وبعبارات سوقية في الغالب، في السجال الدائر بين هؤلاء وأولئك... العرب يتهمون الكرد، بالعمالة وممارسة التطهير العرقي والعدوانية المنفلتة من عقالها، والكرد يتهمون العرب بما هو أسوأ من ذلك... هؤلاء شامتون بالظروف التي تشتد صعوبة حول الأكراد في سوريا، ومن قبلهم أشقاؤهم في العراق، والكرد "يعيّرون" العرب باندثارهم من التاريخ والجغرافيا... هؤلاء يبررون القتل والتمرد على الدولة، وأولئك يتهمون العرب بالاستتباع واستدعاء المليشيات المذهبية والخنوع لشتى الاحتلالات.
كل تيار سياسي، بما في ذلك الأنظمة والحكومات، على فسادها واستبدادها، وكل فصيل أو ميليشيا مسلحة، بما فيه الفصائل الشوفينية والمذهبية و"الإرهابية" لديها قاعدة من الجمهور العريض، يحتضنها ويدافع عنها، ولكل أسبابه ومبرراته... حتى "داعش" و"النصرة" الفصيلان المصنفان إرهابيان، بإجماع دولي نادر، لديهما "قواعد" بين الجمهور، وثمة من يرى فيهما حركات احتجاجية إسلامية، وكل ما تقومان به، ليس سوى ردة فعل على فعل أصلي، أكثر وحشية ودموية.
قبل سنوات الربيع العربي، كانت الأنظمة معزولة جماهيرياً في الغالب الأعم، وكانت قوى المعارضة والإصلاح والتغيير، تجد تأييداً مضمراً إن لم يكن معلناً من قبل قطاعات شعبية وازنة، وكان "سلاح الخوف والترهيب" وحده، يبقى لهذه الحكومات بعضاً من "ماء وجهها"... اليوم، اختلفت الصورة تماماً، إذ حتى أكثر الأنظمة دموية، سيكون بمستطاعه الادعاء بأن لديه قاعدة جماهيرية، طورها وعززها، إن بناء على "الخوف من الآخر" في الوطن والإقليم، أو بإعمال "نظرية القطيع" التي تجعل الجمهور العريض، يصطف خلف رايات مذهبية وجهوية ومذهبية وعشائرية وغيرها مما يمكن إدراجه في عداد "الهويات القاتلة".
وليس للتفتيت والتجزئة في دولنا ومجتمعاتنا من "قعر" يمكن القول إننا بلغناه، وإننا سنستقر فيها لبرهة من الزمن، نعاود بعدها مسار الصعود، وإعادة بناء الهويات الجمعية الناظمة لاجتماعنا الوطني والإنساني... فكلما اعتقدنا أننا بلغنا "قعراً"، وإذ بدرك أسفل منه، ما زال في انتظارنا.
في فوضى الهويات المنقسمة على نفسها وفيما بينها، تنتشر كل "الموبقات"، من الجريمة العادية إلى الجريمة المنظمة، إلى الإرهاب، مروراً بكل أشكال الولاء للخارج وأجهزته ودولاراته، وغالباً على حساب الوطن، وفي مواجهة المواطنين/ الشركاء في الهوية والدين والثقافة والحضارة... وكلما تعمقت "ثقافة القطيع" في اوساطنا، كلما عدنا القهقرى، سنوات وعقود إلى الوراء، وكلما باتت إعادة جمع الأوطان والمواطنين، مهمة بعيدة المنال، عصية على التحقيق.
بالعودة للعرب والأكراد في سوريا، يمكن الجزم من الآن، وبصرف النظر عن مآلات الأزمة السورية، أن أزمة العلاقة بين المكونين، دخلت منعطفاً جديداً، لن تصلح بعدها كافة أشكال العلاقة السابقة صالحة للتعامل مع تحديات المرحلة الجديدة... أزمة الكرد في سوريا، لم تعد من النظام فقط، هناك أزمة مع النظام، ولكنها ليست الأزمة الوحيدة، وإن طال الزمن قبل حل الأزمة السورية، فإن أزمة هؤلاء مع المكون العربي، الشعبي، ستكون أشد فداحة، وستكون وظيفة أي نظام قادم في سوريا، الحالي أو غيره، هي العمل على "رأب الصدع" و"تجسير الفجوات"... وفي مطلق الأحوال، لن تعود العلاقة بين اكراد سوريا وعربها، كسابق عهدها أبداً، ولن يكتب لأي نظام جديد، بصرف النظر عن هوية رأسه ورئيسه، أن يمارس حكم أكراد سوريا، بالأشكال القديمة.
وما ينطبق على سوريا، ينطبق بالقدر ذاته، على عدد من دول "الأزمات المفتوحة" في المنطقة، فليس بمقدور باحث أو "وسيط سلام"، أن يتخيل مستقبل اليمن، والعلاقة بين مكوناته، ولا أقصد هنا، شماله بجنوبه، فثمة هويات "قاتلة" أيضاً، انتعشت على مستوى الجهات والمحافظات، والدولة المركزية باتت أثراً بعد عين، وحدود اليمن سيعاد ترسيمها، أو تجزئتها، وفقاً لخطوط الهويات المحلية والفرعية، ولكل هوية من هذه الهويات، "قاعدتها الاجتماعية" أيضاً، فهي لم تعد مطلب "السلطات المحلية" أو "النخبة" و"الوجهاء" بل مطلباً يستمد "مشروعيته" من جماهيريته.
بات من الصعب في معظم الدول والمجتمعات العربية، وليس في "دول الأزمات المفتوحة" وحدها، الحديث عن "الموقف الشعبي"، أو عن "رأي الجماهير"، فالشعوب تتحول إلى "قطعان" تحركها غرائز مذهبية وجهوية ومناطقية ضيقة، و"الجماهير" لم يعد لها لسان واحد، بعد أن تحولت قطاعات واسعة منها، إلى "رجع صدى" لما يصدر عن قادة المليشيات والطوائف والأحزاب والإثنيات و"المكونات" و"الكيانات" إلى غير ما هنالك من مفردات، بات من الصعب التعرف على مجتمعاتنا، من دون التعرف عليها وسبر أغوارها ومكنوناتها.
يكفي أن تندلع أزمة بين نظامين وحكومتين، حتى ترى "السوشيال ميديا" وقد اشتعلت بحروب "البوستات" و"التغريدات"... يكفي أن تنتظم مباراة كرة بين منتخبين لدولتين شقيقتين، حتى ترى "داحس والغبراء" وقد أطلتا برأسيهما البشعين من صفحات الفيسبوك أو عبر تغريدات تويتر... ومن لديه شك في ذلك، فليتابع السجال الخليجي على خلفية الأزمة القطرية، والسجال المصري السوداني على خلفية الخلاف حول حلايب وشلاتيت، أو الصراع المصري السعودي على خلفية تيران وصنافير، أو السجال المصري الجزائري والمصري المغربي، على خلفية تصريح أرعن، لمقدم برامج أجوف، لا يتورع عن شتم شعب بأكمله، أو التشكيك بشرف نسائه وأخلاقهن، لمجرد نزوة أو بسبب خلاف عابر.
"نظرية القطيع" تفعل فعلها في تشكيل وإعادة تشكيل مجتمعاتنا وهوياتنا، ومتابعة تداعياتها ومظاهرها البشعة في الإعلام ووسائط التواصل الاجتماعي الأكثر انتشاراً، تجعلنا نذرف الدمع مدراراً، على "المرحومين" سايكس وبيكو؟!
اضف تعليق