q

يبدو أن إيران قررت أن ترد بشكل عملي على الرفض الإسرائيلي والأمريكي الترامبي للاتفاق النووي؛ وعلى محاولتهما إعادة فتح الملف من جديد، وإعادة صياغة الاتفاق، بحيث يربط رفع العقوبات على إيران بتحديد نفوذها السياسي والعسكري المتزايد في الإقليم وخاصة في سوريا ولبنان، وهنا جاء الرد الإيراني معاكسا بزيادة التواجد العسكري في كلا البلدين بوصول جنرالات الحرس الثوري الإيراني لحدود الجولان المحتل، وبنقل ترسانة التصنيع العسكري الإيراني إلى لبنان.

في خطوة أفقدت رئيس وزراء إسرائيل نتنياهو صوابه؛ وجعلته يطير هلعاً وعلى عجل لموسكو لاستيضاح ما وراء الأكمة فيما يجري؛ لكن الرد الروسي كالعادة لم يخفف من هلع نتنياهو، ومن الواضح أن تهديدات نتنياهو قوبلت بتحذيرات روسية مضادة، وأدرك نتنياهو من خلالها أن الموقف أعقد بكثير مما كان يظن، فالروس لم يعطوه أي وعود تطمئنه؛ بل على العكس، وربما أدرك نتنياهو أن أي محاولة متهورة من قبل إسرائيل اليوم في لبنان لن تقابل إلا برد أكثر تهور من الطرف الآخر. وإذا أضفنا إلى المشهد تهديد الرئيس السوري بأن أي استهداف إسرائيلي لقواته مجددا سيكون الرد عليه في قلب تل أبيب، فإننا اليوم أمام تحول عملي عميق في معادلة الردع الإقليمي بدخول البعد الدولي الامبراطوري لمكوناتها.

نحن اليوم أمام أجواء هي أقرب لتلك التي كانت قائمة في العام 2006، لكن الفرق اليوم يكمن في أن أي تصعيد عسكري لن ينحصر في الجبهة اللبنانية؛ بل سيطال الجبهة السورية أيضا، وطبقاً لمعطيات حالة الجغرافيا السياسية السائلة القائمة، فليس بمقدور أي كان أن يحدد مدى اتساع جبهة النار إذا ما قررت إسرائيل إشعال عود الثقاب.

كذلك نحن أمام مشهد دولي إمبراطوري تستعيد فيه روسيا مناطق نفوذها، وتفرضه بالقوة وبالتعاون مع إيران باعتبارها قوة إقليمية وازنة، في حين تناضل الولايات المتحدة من أجل صد التمدد الروسي الإيراني الذي بدأ يطوق مناطق نفوذها التاريخي في شبه الجزيرة العربية، وعلى حدود إسرائيل الشمالية وصولا لشواطئ شرق المتوسط، وبما أن الحروب ليست إلا جزء من المفاوضات يضطر لها أحد الأطراف ليؤكد للطرف الآخر مدى واقعية الحقائق التي يتجاهلها، فإن الحرب تبقى أحد الخيارات القائمة لتدرك إيران وروسيا حقيقة أنه لم يعد مقبولاً أمريكياً استمرار اتساع النفوذ الروسي الإيراني في المنطقة، ولتدرك إسرائيل والولايات المتحدة أن إعادة فتح الملف النووي سيفتح ملفات أخرى ظنت كلا الدولتين أنها قد حسمت سلفاً بالقوة والردع.

وفي المقابل تجيد إيران ببراعة منقطعة النظير لعب سياسة حافة الهاوية، وتعرف جيدا متى وكيف تستخدمها وتحصد المكاسب بها، وهي هنا على النقيض من الطرف الإسرائيلي الذي لا يحتمل الصمود الزمني لتلك السياسة؛ والذي يتعجل حسم الأمور في أقل وقت ممكن وبأقل خسائر ممكنة، وهو ما لن يتوفر في أي مواجهة عسكرية قادمة على الجبهة الشمالية بعد أن تحول خطرها من خانة التهديد الأمني إلى خانة التهديد الاستراتيجي العميق الممتد من الحدود الشمالية إلى طهران مرورا بسوريا والعراق.

باعتقادي ليس أمام إسرائيل الإ أن تعيد حساباتها، وأن تنزل من أعلى الشجرة التي أعتلتها عقب فوز ترامب بانتخابات الرئاسة الأمريكية، وعليها أن تدرك أن فتح الملف النووي من جديد وإعادة صياغة بنوده طبقا لمصالحها الإستراتيجية فقط يتطلب منها دفع فاتورة باهظة، وتدرك جيدا أنها عاجزة على دفعها بمفردها، وترغب أن يشاركها حلفاء الظل في المنطقة في تلك الفاتورة الباهظة، لكن مشاركة من هذا النوع تتطلب حتما تجميدا القضية الفلسطينية؛ ليرى تحالف الظل أشعة الشمس، وهنا تبدو الأهمية الاستراتيجية لتمرير صفقة القرن بأسرع وقت ممكن، وهذا يفسر حجم الضغوط الأمريكية والإسرائيلية والعربية على الطرف الفلسطيني للقبول بها كما هي، أو رفضها كما هي، وهذا يعني أن هناك خطة (أ) وأخرى (ب) في هذا الصدد، فإن قبل الفلسطينيون تمرير الصفقة المجحفة، يصبحوا بدولتهم الهلامية السيادة والحدود ضمن محور التحالف الأمريكي العربي الاسرائيلي، ولكن إذا أصر الفلسطينيون على رفض صفقة القرن فما هي الخطة (ب) البديلة التي لمح لها جرنينبلات في تصريحاته الأخيرة، والتي حَمل الفلسطينيين فيها المسؤولية عن العواقب الوخيمة التي ستترتب على رفضهم للصفقة.

السؤال الأهم اليوم هو هل بمقدور الفلسطينيين أن يقفوا في المنتصف بين هذا الاصطفاف المحوري الحاد في المنطقة، وهل تغني قوة العدالة للقضية الفلسطينية عن القوة المادية لخلق نواة محور جديد أكثر عدالة وأخلاقية وإنسانية أم أنهم وقضيتهم سيتحولون لعشب الأرض في الشرق الأوسط الجديد الذي يؤكد التاريخ السياسي أنه المكان الأقل أخلاقية في هذا العالم، حيث لا مكان فيه تحت الشمس إلا للأقوياء...

الإجابة على تلك الأسئلة تكمن لدينا نحن الفلسطينيين في مدى قدرتنا على تفعيل البعد الإنساني الأخلاقي العالمي لقضيتنا باعتباره البعد الرئيسي والأول والاكثر أهمية لصراعنا مع الحركة الصهيونية، ولكن هذا التحدي يتطلب تغيرات جذرية في الرؤية الفلسطينية للصراع، وكذلك للأداء الفلسطيني الجمعي على كافة المستويات السياسية والنضالية على حد سواء نحو خلق نموذج نضالي فلسطيني نشترك فيه مع الدول الحرة وأحرار العالم في أدبيات ومبادئ الحرية والعدالة والديمقراطية والحضارة والتنوير نحو نظام عالمي أقل توحشا وأكثر أخلاقية.

* أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية
[email protected]

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق