ليس في الاستحقاق الانتخابي المصري ما يستحق المتابعة، فالانتخابات محسومة النتائج سلفاً، وتحولت إلى "استفتاء" بعد أن انسحب المتنافسون أو أجبروا على الانسحاب، ونخشى أن تنحصر خيارات الناخب المصري بواحد من اثنين: نعم أو لا بأس، وبصورة تذكر بالانتخابات المفرغة من كل مضمون، التي ازدحم بها العالم العربي، ومن ضمنه مصر، قبل اندلاع ثورات الربيع العربي وانتفاضاته.
من الفريق أحمد شفيق، إلى الفريق سامي عنان، وصولاً إلى خالد علي، وعطفاً على عدد آخر من المترشحين الأقل وزناً وأهميةً، لم يبق أحدٌ منهم في السباق، بعضهم تحيط بمصيره الشائعات والأقاويل، وبعضهم الآخر عرضة للمساءلة القانونية، فيما آخرون يشتكون من تعرض حملاتهم الانتخابية للمضايقة والتضييق، ولعل في واقعة الاعتداء الوحشي أمس الأول، على المستشار هشام جنينية من قبل عدد من "البلطجية؟!" ما يوفر صورة عن مسار العملية الانتخابية ونزاهة المنافسة بين المترشحين، مع أن الحادثة وقعت بعد انسحاب عنان وتوجيه تهم له بالتزوير في أوراق رسمية والتأليب على الوقيعة بين الشعب والقوات المسلحة، لكأننا أمام محاولة لتلقين من تسوّل له نفسه المنافسة والترشح، درساً دامياً وبليغاً، وإن بأثر رجعي.
انتخابات بمرشح واحد أوحد، أمرٌ محرج بلا شك، لمن أوصل العملية الانتخابية إلى هذه النتيجة، وهو ما تداركه القائمون على مؤسسات صنع القرار، فبادروا كما تقول الشائعات لإقناع رئيس حزب الوفد السيد بدوي، للترشح على عجل وفي مهلة لا تتخطى الثمانية والأربعين ساعة، عليه خلالها، ان يجمع توكيلات من 25 ألف مواطن من 25 محافظة، أو 20 نائباً، وكيف له أن يفعل ذلك، وفي هذا الوقت القصير، ما لم تتدخل "المؤسسة" لتسهيل مهمته، فالمسرحية الانتخابية، بحاجة لـ "دوبلير" أو "كومبارس" وفقاً لأقوال صحف عربية، والمطلوب من السيد البدوي أن يقوم بهذا الدور، متناسياً، أنه وحزبه، سبق وأن دعموا بالأمس القريب ترشيح السيسي، فكيف سيتقدمون اليوم وغداً، لمنافسته ومزاحمته على المقعد الذي تعهد بمنع وصول "الفاسدين" إليه، أللهم إلا إذا كانت وظيفة هذا المرشح المنافس، دعوة الناخبين للتصويت لخصمه؟!
لقد شهدنا على انتخابات مماثلة في مصر قبل ثورة الخامس والعشرين من يناير المجيدة التي تحل ذكراها السابعة هذه الأيام... وتعرفنا على هذا النمط من "الاستفتاءات" في سوريا زمن حافظ الأسد وعراق صدام حسين... زمن الانتخابات والاستفتاءات التي تنتهي بـ "99 بالمائة" لصالح القائد الرمز والزعيم الضرورة، الرفيق الفريق، هدية السماوات إلى الأرض، والنعمة التي يتعين التسبيح بحمدها "في العشي والإبكار".
تلك الانتخابات المفرغة من كل مضمون، والتي لم يكن لها من وظيفة سوى تأبيد الاستبداد والركود والفساد، وإعادة انتاج ثالوث "التمديد والتجديد والتوريث" غير المقدس، هي التي قادت إلى اشتعال المنطقة العربية بثورات الربيع العربي التي لم تهدأ تداعياتها حتى يومنا هذا، وليس من مدى مرئي أو منظور لهدأتها، فلماذا يعتقد البعض منّا، أن العودة إلى تلك العصور الغابرة، يمكن أن تأتي بنتائج أفضل، أو تقودنا إلى نهاية مختلفة... لماذا يصرون على السير في الطريق ذاته وينتظرون الوصول إلى خواتيم مغايرة؟!
ثم، ما ضر "مصر التي في خاطري وفي دمي" لو أن رئيسها أعيد انتخابه بنسبة 60 بالمائة من الأصوات، أو حتى 51 بالمائة منها، في انتخابات حرة ونزيهة، وقائمة على المنافسة الحرة والشريفة، وبصورة لا مجال فيها للطعن والتشكيك، وأية شرعية تلك التي تحتاج إلى 99.99 بالمائة من أصوات، وهل ثمة في التاريخ شعب واحد، انتخب زعيمه بصورة حرة وطوعية، بهذا الإجماع المستحيل؟
ونستون تشرشل الذي وصف بأنه أعظم زعيم بريطاني عبر كل العصور، الرجل الذي قاد بلاده للانتصار على ألمانيا النازية في الحرب العالمية الثانية، لم يحل مجده دون سقوطه في أول انتخابات بعد الحرب، ليقبل طائعاً مرضياً، الانتقال إلى مقاعد المعارضة... شارل ديغول، بطل المقاومة الفرنسية ضد النازية، والأب الروحي للجمهورية الخامسة، لم يحل إرثه المجيد في تخليه عن رئاسة الحكومة بعد الحرب العالمية، والاعتكاف بمنزله لسنوات مديدة، ومن ثم الاستقالة من موقعه على رأس الجمهورية بعد انتفاضات العمال والطلاب في العام 1968، وسقوط مشروع اللامركزية التي دافع عنه وعرضه على استفتاء شعبي.
ليس من بين حكامنا تشرتشل واحد أو ديغول واحد، ولكنهم مع ذلك لا يقبلون التجديد والتغيير، ولا يعرفون الاستقالة أو التنحي، بل ولا يحتملون منافسا في الانتخابات، ولا يقبلون بنسبة أقل من الـ "99 بالمائة" التي التصقت بانتخاباتنا واستفتاءاتنا، وصارت بمثابة "ماركة مسجلة" للانتخابات في العالم العربي.
نحن نشهد على انتكاسة كبرى في مسار الإصلاح السياسي والتحول الديمقراطي، في مصر والعالم العربي، ونعاود انتاج ذات الذرائع التي بررنا بها استطالة أزمنة الركود والاستبداد... الحرب مع إسرائيل حلت محلها الحرب على الإرهاب... والحرص على "السيادة الوطنية" في مواجهة ضغوط الخارج، حلت محلها شعارات "الحرص على الدولة وبقائها"... أما اتهام الشعوب بالجهل وعدم النضج لممارسة الديمقراطية، فتلك ذريعة قديمة – جديدة، صالحة لكل زمان ومكان في دنيا العروبة.
على أن حكامنا وأنظمتنا، وجدوا في الفوضى والخراب، المتأتيان على "الثورة المضادة" لثورات الربيع العربي، وليس عن الربيع العربي ذاته كما يشاع زوراً وبهتاناً وإفكا، وجدوا فيها ذريعة فعّالة ومخيفة، لوضع شعوبنا أمام واحد من اختيارين: إما الإصلاح وإما الاستقرار، لكأننا أمام ضدين لا يلتقيان أبداً، أو لكأن كل مطالبة بالإصلاح هي دعوة للمس بالاستقرار ودعماً للإرهاب وانحيازاً لقوى الظلام والتكفير والتخريب.
مصر أنجزت ثورتين عظيمتين في ثلاثة أعوام، الأولى اختطفتها "الجماعة" والثانية صادرتها "الدولة العميقة"، والعالم العربي الذي يترنح منذ عقد تقريباً تحت وطأة أصعب مرحلة انتقال في تاريخه الحديث، مقدر له أن يستمر على هذا الحال، ولسنوات طوال قادمة، فالدول التي شهدت ثورة أو اثنتين، قد تشهد المزيد منها، وتلك التي أفلتت من الموجة الأولى من رياح التغيير و"الربيع العربي" مرشحة لأن تقع بين فكي الموجة الثانية، إن لم يكن خلال سنوات خمس، فخلال عقد من الزمان على الأكثر... العرب لن يبقوا على هذا الحال، لكن انتقالهم إلى ضفاف الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، سيكون مريراً ومديداً، ونسأل الله ألا يكون دامياً، فيكفي هذه المنطقة، ما جرى في أنهارها من دماء، وما تعرض لها انسانها وعمرانها من خراب وتدمير.
اضف تعليق