معروف ان المراحل الانتقالية للدول من عهد الى عهد مغاير يعتمد بالمطلق على ما يتم وضعه من اسس لبناء نظام سياسي جديد على أنقاض نظام سياسي سابق، على الرغم من النظام السياسي ليس هو الحكومة وليس هو الدولة ولكن هوية الاخيرة وطبيعة ادارة السلطات فيها تستند على طبيعة مايقرره النظام السياسي وفق نظامه الاساسي (الدستور)، وطبيعة العلاقة بين السلطات والقواعد الاخرى المكونة له.

وعادة ماتكون هذه المرحلة صعبة فيما اذا تم التغيير السياسي – بصوره المتعددة – بفعل داخلي سواء بمبادرة من النظام ذاته او بالتعاون بين النظام والجماهير بعد ضغط الأخيرة عليه، ولكن تكون اصعب واشد تعقيدا اذا ما حصل التغيير السياسي بفعل او تدخل خارجي وحينها يكون ذلك النظام عرضة للتفاعلات الدولية والاقليمية الراغبة بضمان مصالحها خشية مصادرتها من قبل الطرف الدولي الذي يقوم بالتغيير.

وهذا ما حصل مع العراق، ولا اريد الخوض في طبيعة الاداء السياسي كنظام سياسي وعناصر مكونة واولها الاحزاب السياسية بعد العام 2003، بل اريد ان اثبت فرضية ان النظام السياسي العراقي لاتخيم عليه المخاطر والتحديات الخارجية (الاقليمية والدولية) فحسب، بل ان النظام لم يستطع تكييف اداءه واداء عناصره (الاحزاب السياسية) قانونيا وسياسيا وبالتالي اجتماعيا وثقافيا يتلائم ذلك الاداء مع المرحلة الجديدة من دون العيش في ماضي ماقبل التغيير والانتقام له مما اوصله الى مرحلة يكون هذا الاداء السياسي هو الخطر الذي ينخر بجسد النظام من الداخل مما يضفي خطورة اضافية عليه اذا ما سلمنا بالتحديات الخارجية.

في العراق، ومنذ ان بدء العد التنازلي والاستعدادات للدورة الانتخابية الرابعة المقرر الشروع بها في الانتخابات البرلمانية وانتخابات مجالس المحافظات في شهر آيار القادم، نلاحظ ان البرلمان والقوى السياسية داخله تتفاعل لضمان مصالحها وعملت جاهدة على ذلك ليس انتخابيا فحسب، بل سياسيا واقتصاديا ولهذا تكون الموازنة الاتحادية ضحية لتلك التفاعلات ضيقة الافق ومنعدمة الرؤية كما في مشروع قانون الموازنة الحالية.

ولهذا نلاحظ ان البرلمان لم ينجح في ضمان ادارة انتخابية نزيهة محايدة وهي احد الاركان الثلاثة للعملية الانتخابية (ناخبين، النظام الانتخابي او القانون الانتخابي، والادارة انتخابية). واذا ما تحدثنا عن الركن الاخر (قانون الانتخابات) نجد النتيجة ذاتها. اذ لازالت القوى السياسية تعمل على ضمان مصالحها الانتخابية في مشروع القانون او على اقل تقدير تسعى الى اعتماد القانون السابق رقم (45) لسنة 2014 مع امكانية اجراء بعض التعديلات التي تتطلبها مفوضية الانتخابات فيما يتعلق بالإجراءات الفنية كالعد والفرز التي حلت محلها اجهزة بايومترية. وبالتالي، وعلى مدى ثلاث دورات انتخابية برلمانية ومجالس محافظات سابقة، لم تحقق العملية الانتخابية هدفها السامي في ضمان التمثيل الحقيقي للجمهور (الناخبين) في اختيار ممثليهم في ادارة سلطات البلاد.

لا ينحصر الخطر بما ذكرناه اعلاه اي بالجزء المتعلق بالعملية الانتخابية واركانها وما آلت اليه من نتائج كارثية في بناء نظام سياسي هش وعرضة لأخطار الارهاب والفساد، بل امتد الخطر ليكمن هذه المرة بطبيعة التحالفات الانتخابية التي ظهرت قبل ايام والتي ستشترك في الانتخابات القادمة.

وقراءة تلك الطبيعة بتمعن تنبئنا بأخطار عدة يمكن حصرها بالآتي:

- لازالت الطائفية هي معيار التحالف وهذا ما نلاحظه في قوائم عدة على الرغم من وجود شخصيات من الطرف الآخر والتي لاتشكل سوى نسبة ضئيلة من المكون الكلي للتحالف الانتخابي وهذا انذار خطر. اذ ان فقدان القوى السياسي الرؤية والمشروع لبناء الدولة ونظامها السياسي هو ما دفعها الى ان تعتمد على الطائفية في تحصيل الاصوات في الانتخابات السابقة. ولابد ان نشير هنا الى ترويج بعض القضايا في الرأي العام والاعلام كانت ممهدة للاعتماد على الطائفية مع قرب موعد الانتخابات مثل قضية تعديل قانون الاحوال الشخصية، وما سمي بـ " قانون" قدسية محافظة كربلاء وغيرها.

كان ولازال الدرس قاسيا من اعتماد الطائفية كأساس في ادارة الدولة من ارهاب وفساد وبنى تحتية مهدمة واقتصاد في حالة خطر وانعدام موثوقية وحدات المجتمع الدولي من دول ومنظمات في الدولة العراقية. والاصرار على غض النظر عن تلك النتائج الكارثية يجعل النظام السياسي العراقي والذي لازال في مرحلة الانتقال الى الديمقراطية وليس التحول الديمقراطي والذي امامه فرصة اخيرة للوقوف واكمال المسيرة. الامر الذي يجعله في خطر كبير وربما يكون ضحية لأبسط هزة في المستقبل المنظور.

- الكثير من قادة التحالفات الانتخابية وبعضهم من هم في موقع المسؤولية أعلنوا عن ضرورة مكافحة الفساد ويطالبون بالاستمرار بمكافحة الفساد والمفسدين وبقوة، تسابقوا على ضم المتهمين بالفساد الى تحالفاتهم الانتخابية. وهذه مفارقة ساذجة وتعبر عن استهتار بإرادة الناخب العراقي وخداع لها عبر تغيير المسميات والشعارات.

- المكون (السني) كناخبين، ونتيجة ما مر به من مآسي وحيف، رفض الطبقة السياسية (السنية) فهي السبب الاكثر تأثيرا فيما آلت أليه اوضاعهم. ولكن بعد ان تنفس الصعداء بعد تحرير مدنه وقراه من الارهابيين تأمل خيرا بقرب الدورة الانتخابية كخطوة لتغيير ممثليهم، الا انهم اصيبوا بالصدمة من الطبيعة الطائفية لتحالفات هي الاقرب لمبتغياته في تحسين اوضاعهم واولها على سبيل المثال لا الحصر، التحالف الذي يقوده رئيس مجلس الوزراء حيدر العبادي. وبالتالي التكوين الطائفي لتحالفه يعزل المكون (السني) ويحد من مشاركته السياسية هذا من جانب. ومن جانب آخر، ابناء المكون (السني) والمناطق الغربية ساهموا مع المؤسسة العسكرية في تشكيلاتها ومنها هيئة الحشد الشعبي في القتال ضد الارهاب النتاج الابرز للطائفية في البلاد.

- لازالت البرامج الانتخابية للتحالفات المعلنة هي ذاتها التي الن عنها في الدورات الانتخابية السابقة. وبالتالي هي شعارات لاتتوفر فيها حتى فكرة التكامل والشمولية فيما يتعلق بالسياسات العامة ووضع رؤية تقوّم عمل النظام السياسي وتكمل نواقصه. لذا نقول ان هذا التحدي لازال يكمن كخطر كبير يهدد بنية النظام السياسي.

- لازالت آلية التوافق ورعاية المصالح الانتخابية الحزبية والطائفية في تشريع القوانين هي السائدة قبيل كل انتخابات برلمانية، ومن هذه القوانين قانون الموازنة العامة الاتحادية وقانون الانتخابات وغيرها. لذا غالبا ما تشهد البلاد توترا سياسيا قبيل كل عملية انتخابية.

بالنتيجة لابد للقوى السياسية ان تمعن النظر في مكامن الخطر التي تحيط بالنظام السياسي وتنخر فيه من الداخل. كما ان العراق وبوضعه الحالي وهو خارج من معركة وجودية ضد الارهابيين، ويخطط لمعركة مثيلة ضد الفساد، يحتاج لإدراك متطلبات تقويم الوضع وتصحيح مسار الانتقال الى الديمقراطية لندخل مرحلة التحول الديمقراطي عبر وضع الاسس الضامنة لوضع لبنات النظام السياسي الديمقراطي.

* باحث في مركز الفرات للتنمية والدراسات الإستراتيجية/2004-Ⓒ2018
www.fcdrs.com

اضف تعليق