حالة الفوضى التي يشهدها العالم العربي ليست من نوع الفوضى أو الحروب الأهلية أو الثورات الخلاقة التي تضطر إليها الشعوب في بعض المنعطفات التاريخية للخروج من عنق الزجاجة وتجاوز حالة استعصاء لم تفلح معها المعالجات السياسية السلمية، فهذا النوع من الحروب الأهلية حتى وإن نتج عنها فوضى فهي تنتمى إلى الفوضى الخلاقة –بالتأكيد ليس الفوضى التي بشرت بها كونداليزا رايس في عهد أوباما- لأنها تستولد في أغلب الحالات جديدا أفضل مما كان موجودا في كل مناحي الحياة، في السياسة والاقتصاد والثقافة والفكر الخ.

أغلبية الحروب الأهلية والثورات وبالرغم مما صاحبها من ويلات فقد أسست لأفكار وأيديولوجيات وأوضاع اجتماعية وسياسية واقتصادية شكلت شبه قطيعة بالمعنى الإيجابي مع ما كان سابقا. الثورة الفرنسية عززت ونشرت مفاهيم الحرية والمساواة وإرادة الأمة، والثورة الأمريكية عملت على توحيد الولايات الأمريكية وأسست لنظام ديمقراطي مهد الطريق لإلغاء العبودية، والثورة الروسية في أكتوبر 1917 أنهت النظام القيصري، وهكذا بالنسبة لكل الثورات والحروب الأهلية في أوروبا التي وضعت أوروبا في طريق الديمقراطية والتحضر، نفس الأمر بالنسبة لثورات التحرر الوطني ضد الاستعمار التي نقلت الشعوب من حالة العبودية إلى الحرية والاستقلال.

ما يشهده العالم العربي اليوم لا علاقة له بما سبق بل هي فوضى هدامة وحروب أهلية طائفية ومذهبية وصراع حول المصالح والمغانم، وأغلبية أطرافها المتصارعة ليست نتاج تطورات داخلية أو صيرورة لتفاعلات داخلية خالصة بل تم صناعتها ويتم تمويلها خارجيا.

ما يثير القلق من الحالة العربية الراهنة ليس فقط الجانب السياسي وتمظهراته، زعزعة مرتكزات الدولة الوطنية، سيطرة هاجس الأمن على حساب متطلبات التنمية المستدامة، تزايد النفوذ الأجنبي والتبعية للخارج، وتطاول دول الجوار على الأمة العربية، فهذا الخراب المادي والسياسي يمكن مواجهته وتعويضه نسبيا.

الخراب والخطر الأعظم هو ما يتعلق بالهوية والثقافة والتاريخ وزعزعة الثوابت والمرجعيات الجامعة على المستوى الوطني والقومي والإسلامي. ما تشهده المنطقة من فوضى استحضرت مجددا مسألة الهوية وإعادة تعريف (الأنا) و (الآخر) والاستقطاب الهوياتي. (الأنا) اليوم لم تعد العربي المعتز بذاته وتاريخه في مواجهة (الآخر) الغربي والإسرائيلي المُصَنف كعدو تُلصق به كل ما في قاموس اللغة العربية من مثالب، ولا (الأنا) المسلم عنوان الرحمة والعدالة والأمة الوسط في مواجهة (الآخر) المسيحي أو اليهودي (الواجب قتاله حتى يدخل الإسلام أو يدفع الجزية)!.

التبس وتغيَر مفهوم (الأنا) ومفهوم (الآخر) كتعريف هوياتي وأيديولوجي استقطابي كما وقر في الفكر السياسي الإسلامي طوال ألف وأربعمائة عام وكما وقر في العقل السياسي العربي طوال مرحلة ما بعد الاستقلال. العربي اليوم يقاتل ويُخوِّن العربي، والمسلم يقاتل ويكَفِر المسلم، كما تشوهت والتبست مفاهيم الوطن والوطنية والمواطن داخل الوطن الصغير أو الدولة الوطنية.

داخل ما كان أو يجب أن يكون وطنا مشتركا التبست وتشوهت الأنا الوطنية، فلم يعد اليوم العراقي أو السوري أو الليبي أو الجزائري أو الفلسطيني الخ هو ذاته في مواجهة آخر يهدد الدولة والهوية الوطنية، بل تشظت حتى الأنا الوطنية وأصبح الآخر العدو من داخل الحالة الوطنية وليس خارجها، بل من كان يوصف كآخر وعدو أصبح اليوم صديقا وحليفا عند البعض.

(الأنا) اليوم لم تعد الهوية الكلية الجامعة بل تشظت وتشظرت لتصبح أنا العائلة والمذهب والطائفة والملة وكل من تلتقي مصالحه معها يصبح جزءا منها حتى وإن كانت إسرائيل أو واشنطن، و(الآخر) لم يعد كل مَن يهدد الأمة العربية والإسلامية والأمن القومي والوطني بل كل من يتعارض مع أنا العائلة والمذهب والطائفة والملة حتى وإن كان مَن شاطرني الوطن والديار والعيش المشترك لمئات السنين.

وهكذا، وسط انشغال الجماهير العربية بفوضى الربيع العربي غابت القضايا الكبرى وكل ما يعبر عن الثوابت والمرجعيات الوطنية والقومية والإسلامية الجامعة، وانزوى المفكرون والمثقفون العقلانيون الكِبار الذين يُبدعون للوطن وللأمة متحررين من الحزبية المقيتة والطائفية الضيقة، وأصبحت الكتابة اليوم في القضايا الفكرية الكبرى وحول الثوابت والمرجعيات وكأنها تغريد خارج السرب أو هروب من مواجهة الواقع.

اليوم كل شيء أصبح مسطحا وبلا هوية وبلا معنى، والأخطر أن الآخر – الغرب وخصوصا واشنطن - هو الذي أصبح يُصنِف ويُحدد هويات ساكِنة المنطقة ويضع الخرائط ويُعيد ترسيم حدود.

Ibrahemibrach1@gmail.com

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق