بالرغم من أن الإحتجاجات الإيرانية محركاتها ترتبط بالمطالب الإقتصادية، كما بدأت في مدينة مشهد المقدسة، إلا أن إمتداداتها في شاهرود ويزد وطهران والأهواز ومدن أخرى، كان لها حضور سياسي قوي تجاوز الحضور الإجتماعي والإقتصادي.
فالمطالب السياسية شكلت هاجسا مقلقا للسلطات وحتى المؤيدين للنظام السياسي والديني في إيران، ردوا بتظاهرات مناوئة للمحتجين تأييدا للمرشد الأعلى والرئيس الإيراني رغم أن هذه التظاهرات المؤيدة معد لها سلفا سنويا تأييدا للنظام منذ عام ٢٠٠٩ ضد ما يعرف بـ(فتنة ٨٨)، أبان ما سمي بالثورة الخضراء التي تختلف عن الحالية بخروج مئات الآلاف وشكلت تحديا صعبا للنظام السياسي، وإن قادة الثورة الخضراء هو التيار الإصلاحي الذي يتزعمه الرئيس الإيراني حسن روحاني، لكن إحتجاجات اليوم تعارض روحاني ورفعت شعار (الموت لروحاني)، كما تعارض المرشد الأعلى ونظام ولاية الفقيه ورفع شعار (رضا شاه طابت روحك)، بمعنى أن هنالك ضفة ثالثة في سمة هذه الإحتجاجات رافضة لمجمل النظام السياسي الإيراني وتوجهاته ومبادئه المتجسدة بنظام ومبادئ الثورة الإسلامية وولاية الفقيه، بغض النظر عن حجم هذه الضفة ومن يقف خلفها.
كما لأول مرة رفع المحتجّون شعارات معبّرة عن عمق الأزمة في إيران باعتبارها أزمة سياسية أصلا رغم محرضاتها الإقتصادية والإجتماعية المعلنة، فنادى المتظاهرون شعار (لا غزة، لا لبنان، حياتنا إيران) وهذا نقد موجه بشكل مباشر للسياسة الخارجية الإيرانية وإستهدافها، فقد رفع المتظاهرون شعارات واضحة ضد خيارات النظام على مستوى السياسة الخارجية.
والمعروف أن السياسية الخارجية الإيرانية كانت مقترب وطني للإيرانيين ويقف الجميع خلف هذه السياسة، ولكن بعد الإتفاق النووي الإيراني أصبحت محل خلاف بين التيارات السياسية بين مؤيدين ومعارضين للإنفتاح الدولي ومستوى الحضور الإقليمي للجمهورية بين تيار محافظ يرفض الإنفتاح على أمريكا والغرب، وتيار إصلاحي يشجع ذلك، لكن هذه الإحتجاجات ترفض التدخل والحضور والتأثير للنفوذ الإيراني في القضايا الإقليمية باعتبارها ليست أولوية على القضايا الداخلية، ما يعني الإنسحاب والتراجع عن خطاب تصدير الثورة الإسلامية والدفاع عن محورية ما يعرف بمحور المقاومة، وهذا ما اعتبرته السلطات بمثابة تشكيك في الروح التي قامت عليها الثورة الإسلامية عام 1979، وتهجّم واضح على المبادئ التي تأسست وفي مقدمتها مبدأ التضامن الإسلامي.
وهذا يطرح تساؤلات تتعلق بتقييم الثورة الإيرانية في تغير الحياة العامة للمجتمع الإيراني، ونتائج هذه الثورة، ومدى فاعليتها وما قدمته للإيرانيين.
لفهم دوافع هذه الإحتجاجات لابد من فهم طبيعة النظام السياسي الإيراني الذي أفرزته الثورة الإيرانية عام 1979. فهذا النظام شكل نقطة إنطلاق لمرحلة إعادة بناء المجتمع وفق أسس مغايرة لمرحلة الشاه وما قبلها، وهذا التحول أعاد لإيران اعتبارها كقوة إقليمية فاعلة تحظى بتأييد شعبي واسع يدعم مبادئ النظام السياسي ومنطلقات الثورة الإسلامية، غير أن الوضع أدى إلى دفع أثمان دولية تمثلت بالعقوبات الإقتصادية وعزلة دولية بدأت إنعكاساتها تتضح في المجتمع الإيراني منذ عام ٢٠٠٩ سياسيا وإقتصاديا.
هذه الإحتجاجات هي بداية ولادة تيار ثالث جديد لا يمكن إعتباره تيار قائم على أساس الهوية الشيعية الإيرانية ومنطلقات الثورة والنظام، بل سيواجه هذا التيار مرتكزات النظام السياسي المبني على ضمان الإستقرار عبر استعمال الصراعات الخارجية الإقليمية لتطويق الوضع الداخلي الإيراني سواء مع المحيط الجغرافي للجمهورية أو مع الغرب والولايات المتحدة الأمريكية.
ومن شأن هذا التوجه الجديد للتيار الثالث الذي قد يتسع الرأي العام الداخلي والخارجي المؤيد له؛ لأن اليوم تعد القضايا الداخلية وهموم المواطنة والتزاماتها نقطة تحول في إهتمامات الشارع الإيراني الذي بدأ يقدم القضايا التي تهم حياته اليومية مثل العمل ومستوى المعيشة وتحسينها والحريات العامة على بقية الإهتمامات، وهي إهتمامات يمكن ربطها بأغلب ثورات الربيع الديمقراطي التي حصلت في السنوات السابقة في المنطقة العربية وغيرها، حيث تم التعبير في هذه الإحتجاجات والثورات عن مطالبهم السياسية تحت غطاء المطالب الإجتماعية. والسؤال هنا هل هنالك تحول في المسار السياسي والإجتماعي الإيراني؟.
إن أهم متغيرات وتحولات وضع الإحتجاجات وما يجعلها موضع خطر، القوى الإقليمية والدولية المتصارعة والمتنافسة مع إيران التي تدعم هذا الحراك وتعول عليه، وإن المحور المضاد لإيران يدرك أن تقليص النفوذ الإيراني المتزايد في السياسة الإقليمية والدولية لا يمكن تحقيقه إلا من خلال زعزعة شرعية النظام ومشروعية الثورة الإسلامية فهي أقصر وأسهل سبل المواجهة والإضعاف، لكن بالمقابل هناك خط ثاني يدعم إستقرار النظام الإيراني كروسيا والصين وبعض دول الاتحاد الأوروبي المدافعة عن الإتفاق النووي، فإيران تراهن على ثلاثة معطيات مهمة في مواجهة الإحتجاجات الحالية:
أولا: الإعتماد على هذه المنظومة الدولية والإقليمية الداعمة لإيران في حماية النظام ودعم إستقراره والتمسك بالإتفاق النووي وعدم السماح بفرض عقوبات أو إجراءات يمكن أن تضعف النظام الإيراني، وهذا يرتبط بقدرة طهران على المحافظة بقدر مؤثر وجاذب للزخم الدولي والمساند لها.
ثانيا: تعول طهران كذلك على المخاوف المتزايدة ضد الأمن القومي الإيراني التي من خلالها يمكن أن تحوّل أنظار المواطنين المحتجين والمطالبين بالحقوق العامة، وكذلك المواطنين المؤيدين نحو الخطر الذي يهدد الوطن والأمة الإيرانية ووجودها. والعمل على إنعاش الوطنية الإيرانية الموجهة والمفعمة بالقومية الفارسية كحضارة وأمة وتاريخ، فهنالك قاعدة عند الأمة ذات الموروث الحضاري تنص على أنه كلما زاد التعارض مع الجهات الأجنبية المنافسة كلما أستحضر وزاد الشعور الوطني العام.
ثالثا: هناك فرصة إضافية للسلطات الإيرانية بدأت باستثمارها إزاء الإحتجاجات المطلبية وهي عدم البطش المفرط بالمحتجين مما أعطى صورة ورسالة عن إختبار ديمقراطية النظام السياسي الإيراني فيما يتعلق بحرية التعبير عن الرأي، فمستوى الرد الآن لا يمكن مقارنته مثلا لكاتب مقالة مناوئة في دول الخليج أو في تركيا وحتى دول الربيع العربي التي تصل إلى القتل والبطش والإعتقال لمجرد نشر تغريدة مناهضة للنظام السياسي أو شخصية تمثله كما هو معروف.
اضف تعليق