لعبة الأمم هي مجموعة الاستراتيجيات والتكتيكات التي توظفها الدول وخصوصا الكبرى في المجالات العسكرية والاقتصادية والسياسية بطرق شرعية أو غير شرعية لتحقيق مصالحها. ولعبة الأمم لعبة متواصلة حربا أو سلما ولا يتورع الفاعلون فيها عن توظيف الشرعية الدولية إن خدمت مصالحهم، وتجاوزها بل والعمل ضدها إن تعارضت مع مصالحهم، ولذا فهي لعبة تمتد داخل المنظمات الدولية مما يجعل مخرجات هذه المنظمات متوافقة غالبا مع مصالح الدول الكبرى وليس مع مقتضيات العدل والإنصاف.
منذ تأسيس منظمة الأمم المتحدة 1945 كأداة دولية لحفظ الأمن والسلم الدوليين ولتوثيق الصلات بين الشعوب والدول والمنظمة تشتغل في نطاق المسموح به من الدول العظمى المؤسِسة لها، وقراراتها في القضايا السياسية الخلافية التي تكون أحد أطرافها دولة عظمى أو حليفا لها لا تصدر بالضرورة بما يتوافق مع الحق والعدالة بل بما تسمح به موازين القوى والتفاهمات بين الدول الكبرى، وعندما تغيب هذه التوافقات والتوازنات فإن القضايا محل الخلاف تبقى في أروقة الأمم المتحدة لعشرات السنين دون حل أو يتم حسمها بالحرب المباشرة أو من خلال الوكلاء، ومخرجات الحرب يتم تمريرها من خلال قرارات دولية أو بمباركة الأمم المتحدة.
ما جرى في الأمم المتحدة حول القضية الفلسطينية منذ 1947 وما يجري أخيرا بخصوص القدس لا يخرج عن سياق لعبة الأمم، سواء ما جرى في مجلس الأمن بدءا من صياغة مشروع القرار إلى التصويت عليه يوم الاثنين 18 ديسمبر الجاري، أو في الجمعية العامة وتهديد واشنطن بمعاقبة الدول التي تصوت إلى جانب مشروع القرار الذي يدين قرار ترامب، والسياق القانوني الذي يندرج فيه القرار الذي صدر يوم الخميس 21 ديسمبر بأغلبية 128 دولة.
لعبة الأمم من ابتزاز وتهديد ومصالح وموازين قوى كانت حاضرة في صياغة القرار في مجلس الأمن ليخرج بالصيغة التي تسمح لواشنطن باستعمال حق النقض وهذا على عكس ما كان يأمل الفلسطينيون من صيغة قرار لا تسمح لواشنطن باستعمال الفيتو، ولعبة الأمم كانت حاضرة في طريقة التصويت في الجمعية العامة والمادة التي على أساسها تم التصويت وهل القرار صدر في إطار المادة 377 (الإتحاد من أجل السلام) الذي طالما هددت القيادة الفلسطينية باللجوء له؟ أم إنه مجرد قرار أو توصية كعشرات القرارات والتوصيات الصادرة عن الجمعية العامة منذ 1947 حتى اليوم؟.
وعليه يمكن القول بأن السلوك الأمريكي في الأمم المتحدة الذي استثار غضب كثيرين، وإن كان نهجا غير أخلاقي وغير قانوني ويعبر عن تدهور المكانة الدولية السياسية والأخلاقية لواشنطن كدولة عظمى ويدل على تراجع هيبتها واحترامها، إلا أنه لا يخرج عن سياق السياسة الواقعية للولايات المتحدة، كما أنه ينسجم مع سياسة الرئيس ترامب التي عبر عنها منذ حملته الانتخابية، وهو سلوك يعبر بشكل فج عن حقيقة لعبة الأمم.
إن لعبة الأمم أو السياسة الواقعية في عالم اليوم تقوم على المصالح وليس على الأيدولوجيا بكل زركشاتها الفكرية والدينية والأخلاقية والقانونية. قوة التأثير في العلاقات الدولية وفي المنظمات الدولية تحوزها الدول التي تفهم أن لعبة الأمم اليوم تقوم على المال والمصالح. فبالرغم من المحاولات الكثيرة والجادة من دول العالم المحبة للسلام والملتزمة بالشرعية الدولية لجعل الشرعية الدولية أكثر انصافا وحيادية وبالرغم مما تقدمه الأمم المتحدة من مساعدات إنسانية للدول الفقيرة وتشكيلها منبرا لتطرح الدول والشعوب مشاكلها وتوصلها للرأي العام العالمي، إلا أن ما يجري داخل أروقة الأمم المتحدة ما هو إلا انعكاس لما يجري خارجها من صراعات ومصالح وتوازنات دولية، وتستمر الدول الكبرى الأكثر تأثيرا وقدرة على توجيه الشرعية الدولية وتوجيه مخرجاتها بما يخدم مصالحها أو على الأقل بما لا يتعارض معها جذريا.
يعتبر توظيف المال والمساعدات بشكل عام كأداة في التأثير على سياسات ومواقف الدول الصغيرة وقرارات المنظمات الدولية جزء من لعبة الأمم ومن السياسة الواقعية، وليست هذه المرة الأولى في النهج الأمريكي بهذا الشأن، فالكل يتذكر عندما رفضت واشنطن تمويل بناء السد العالي في مصر منتصف خمسينيات القرن الماضي وأوعزت للبتك الدولي بعدم مساعدة مصر في هذا الأمر، وما جرى حديثا عندما قررت واشنطن قطع التمويل عن منظمة اليونسكو عندما صوتت هذه الأخيرة عام 2011 لصالح انضمام فلسطين لها، ومن هذا المنطلق ليس بالشيء الجديد حديث ترامب خلال حملته الانتخابية أنه سيُدَفِع الدول التي تحميها واشنطن أو تقدم لها المساعدة ثمن هذه الحماية.
تصريحات مندوبة واشنطن في الأمم المتحدة يوم العشرين من ديسمبر الجاري -2017- والتي أيدها ترامب بأن واشنطن ستتخذ إجراءات في مواجهة الدول التي ستصوت إلى جانب القرار الذي يُدين قرار ترامب بالنسبة للقدس يندرج أيضا في سياق توجه جديد لدى الإدارة الأمريكية في تعاملها مع المنظمات الدولية. ففي مشروع ميزانية الولايات المتحدة لعام 2018 تم تخفيض الانفاق على المنظمات الدولية بنسبة 37% وجاء في نص المشروع “الولايات المتحدة كعضو في الأمم المتحدة والمنظمات الدولية الأخرى تحترم التزاماتها تجاه هذه المنظمات في شكل تخصيص نفقات من الميزانية، والغرض من هذه التخصيصات هو ضمان دعم تلك المنظمات التي تلبي مصالح الولايات المتحدة.”
وأخيرا لا نقلل من قيمة القرار الأخير للجمعية العامة وغيره من القرارات التي تؤيد عدالة قضيتنا وتكشف الانحياز الأمريكي للاحتلال الإسرائيلي، ولكن السؤال الذي يفرض نفسه : وماذا بعد هذا القرار؟ وهل سنستمر في المراهنة على الأمم المتحدة لنيل حقوقنا دون الأخذ بعين الاعتبار ما يجري على أرض الواقع من توازنات وصراعات؟. ومن جهة أخرى نقول بأن المشكلة لا تكمن فقط في ترامب وسياساته ولكن أيضا في دول عربية حليفة لواشنطن ومشاركة معها في لعبة أمم قذرة وتوظف المال السياسي لشراء ذمم قادة وميليشيات ونخب وتشكيل أحلاف عسكرية لتدمير دول عربية أخرى وتفتيت مجتمعاتها لا لشيء إلا للحفاظ على مصالحها وعروشها.
نعم القرار مهم من ناحية معنوية وسياسية ولكن يجب الحذر من توظيف الدول العربية والإسلامية هذا القرار باعتباره ردا كافيا وحاسما على قرار ترامب وعلى الاحتلال الإسرائيلي للقدس ولكل فلسطين، وكفى الله المسلمين شر القتال ! ولماذا يتم انتقاد واشنطن على قيامها بتوظيف أموالها ونفوذها لخدمة مصالحها ومصلحة حليفتها إسرائيل ولا توظف الدول العربية والإسلامية مالها وثرواتها للتأثير في مواقف الدول في الأمم المتحدة أو لتثبيت الوجود الفلسطيني في القدس وفلسطين؟ ولماذا تشارك هذه الأنظمة العربية في لعبة أمم تصطنع عدوا جديدا متجاهلة العدو الإسرائيلي؟
اضف تعليق