إلى ما قبل توقيع ترامب على قرار الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل كانت القيادة الفلسطينية تراهن على عملية تسوية سياسية تؤدي إلى دولة، وكان من المُفتَرض أن تكون قضية القدس واللاجئين والحدود من قضايا الوضع النهائي التي ستُحسَم من خلال المفاوضات سواء في إطار حل ثنائي بين الفلسطينيين والإسرائيليين أو حل جماعي في إطار مبادرة السلام العربية أو في إطار مؤتمر دولي للسلام، أو على الأقل تبقى معلقة في ظل حالة ألا حرب وألا سلم.
وهكذا نلاحظ أنه بالرغم من تعثر عملية التسوية والمفاوضات وصيرورة حل الدولتين شبه مستحيل وبالرغم من إعلان ترامب نفسه منذ توليه الحكم أنه لا يلتزم بحل الدولتين وحديثه الواضح أثناء حملته الانتخابية أنه سينقل السفارة إلى القدس، بالرغم من كل ذلك إلا أن القيادة لم تقطع مع الإدارة الأمريكية واستمرت في المراهنة على التسوية السياسية والتمسك باتفاقية أوسلو والتنسيق مع إسرائيل وكبح جماح أي أعمال مقاومة مسلحة ضد إسرائيل. بل من شروط المصالحة الأخيرة أن تلتزم حركات المقاومة في قطاع غزة بالهدنة الموقعة مع إسرائيل وخيار التسوية السياسية.
كانت القيادة الفلسطينية تعرف منذ مجيء ترامب بوجود تحركات مشبوهة لتصفية القضية الفلسطينية تشارك فيها دول عربية من خلال الالتفاف على القرارات الدولية والاتفاقات والتفاهمات السابقة حول قضايا الوضع النهائي ولكنها كانت تراقب وتنتظر وغير قادرة على مواجهة الدول المشارِكة في هذا المخطط.
إعلان ترامب قراره بالاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل لم يفاجئ القيادة الفلسطينية التي كانت تعرف ما يدور في المنطقة، وهذا ما نستشفه من خلال ردود فعلها الهادئة وكلماتها الموزونة، إلا أن القرار أحرج القيادة وأربك القوى السياسية الحزبية واستفز الجماهير. بشكل عام فإن ردود الفعل ما زالت حتى الآن مرتبكة ومترددة من كل الأطراف.
رسميا ألقى الرئيس أبو مازن خطابا شاجبا ومندِدا ورافضا للقرار، وقال بأن اجتماعا موسعا لكل القوى السياسية سيتم عقده قريبا لاتخاذ القرارات المناسبة، وأن فلسطين سترفع دعوى على واشنطن في الأمم المتحدة وأن القيادة الفلسطينية لن تلتقي بنائب الرئيس الأمريكي أثناء زيارته للمنطقة ولن تتعامل مع واشنطن كراعي أو شريك في عملية التسوية السياسية، ولكنه في نفس الوقت أكد على استمرار الالتزام بالحل السلمي.
لم يبتعد كثيرا الموقف الرسمي للفصائل والأحزاب عن موقف الرئيس أبو مازن، باستثناء حدة الخطاب ودعوة الشعب للخروج للشارع في أيام غضب، دون استعمال ما بيدها من قوة عسكرية كبيرة. أما على المستوى الشعبي فقد خرجت الجماهير إلى الشارع بعفوية وأحيانا بتوجيه من الأحزاب، إلا أن الجماهير لن تبقى في حالة تظاهر وأيام غضب إلى ما لا نهاية.
بعد اتضاح هزال ردود الفعل العربية والإسلامية ومحدودية ردود الفعل الدولية وبعد خروج الجماهير للشارع انتظر الجميع قرار القيادة الفلسطينية وانعقاد المجلس المركزي، إلا أنه تم تأجيل انعقاد المجلس المركزي للمنظمة وقرر الرئيس الذهاب في جولة خارجية.
القيادة الفلسطينية ولأنها تعرف خلفيات وأبعاد القرار فإنها تتمهل في اتخاذ قرار نهائي في انتظار أحد أمرين: إما أن تهدأ حالة الغضب الشعبي ويستسلم الجميع للأمر الواقع وآنذاك تبدأ بالتعامل مع الموضوع محاوِلة التقليل من الخسائر المترتبة عنه ومتسلحة بهدوء الشارع وبتخاذل العرب والمسلمين، أو تنتظر إلى حين تطور الأمور أمنيا إلى انتفاضة أو هبة شعبية وآنذاك ستتحرك القيادة لتوظيف هذا الحراك الشعبي لتحسين أوراقها التفاوضية، دون تحميلها مسؤولية التصعيد في الشارع ودون أن تصل مواقفها لمرحلة تبني ثورة أو انتفاضة مسلحة.
وبمزيد من التفصيل، نعتقد أن كل الخيارات أمام القيادة الفلسطينية صعبة، وهناك أربعة خيارات أو احتمالات:
1- استمرار المراهنة على التسوية السياسية وانتظار تفاصيل ما يسمى الصفقة الكبرى ولا نعتقد أن القيادة الفلسطينية تستطيع مقاطعة واشنطن أو عدم التواصل مع مبعوثي ترامب، والأنظمة العربية ستضغط على القيادة الفلسطينية في هذا الاتجاه. بالرغم من خطورة هذا الخيار لأنه يعني الاعتراف بالقدس الموحدة عاصمة لإسرائيل، إلا أن هناك منطق يقول بأن أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين أمر يخص كل المسلمين فلماذا يضحى الفلسطينيون لوحدهم ويعطلوا فرص قيام دولتهم بسبب القدس؟ ولماذا لا يتحمل العالم الإسلامي مسؤولية القدس ولتكن هذه الأخيرة عهدة عندهم وعليهم التصرف بما يمليه الواجب الديني؟ !!!.
2- تسريع وتيرة الانضمام للمنظمات الدولية وعودة طرح القضية الفلسطينية على مجلس الأمن والجمعية العامة ومحكمة الجنايات الدولية أو غيرها، وفي نفس الوقت البحث عن عملية تسوية جديدة من خلال مؤتمر دولي أو مشروع تسوية بدون رعاية واشنطن. هذا الخيار مجرد محاولة لكسب الوقت والبقاء في المشهد، فمراكمة القرارات الدولية غير الملزمة لن يفيد كثيرا وحق الفيتو سيساعد واشنطن على التحكم في الحراك الدولي في المنظمات الدولية، كما أن واشنطن لن تسمح بخروج ملف الصراع الفلسطيني الإسرائيلي من يدها. حتى لو صدر قرار من مجلس الأمن بإدانة واشنطن على قرارها بشأن القدس فسيكون قرارا غير ملزم يضاف لمئات القرارات الأخرى.
3- العودة لنهج (العرفاتية) أو إستراتيجية الرئيس أبو عمار التي تقوم على (غصن الزيتون بيد والبندقية بيد). هذه الاستراتيجية تحتاج في شقها الأول – غصن الزيتون - وجود عملية سلام جادة وهذا غير موجود حاليا، كما تتطلب توفر الرغبة في السلام والتسوية العادلة عند الطرف الثاني – إسرائيل –وهذا غير متوفر أيضا، وتحتاج المعادلة في شقها الثاني – البندقية – إلى قيادة مُقَاتِلة ووحدة وطنية وضمان حد أدنى من التأييد العربي والإسلامي وخصوصا من مصر والأردن المرتبطتان باتفاقية سلام مع إسرائيل ومن دول الخليج حليفة واشنطن، وهذا أيضا غير مضمون، فلا القيادة والنخبة السياسية الفلسطينية مستعدة لتبني هذا الخيار ولا الحالة العربية مهيأة له.
4- سياسة قلب الطاولة وإعلان الرئيس أبو مازن أو الاجتماع القادم للقوى السياسية مجتمعة عن نهاية عملية التسوية السياسية وحل السلطة وسحب الاعتراف بإسرائيل وتحميلها المسؤولية الكاملة عن الأراضي الفلسطينية، وهذا ما تطالب به الفصائل والأحزاب وقطاع كبير من الشعب، وهذا ما نستبعده لأن الطبقة السياسية الفلسطينية حتى التي تتحدث عن هذا التوجه، غير مستعدة أو مهيأة لتَحمُّل تداعيات هذا التصرف.
في اعتقادنا أن الأمور ستتراوح ما بين الاحتمالين الأول والثاني لاعتبارات خاصة ببنية الطبقة السياسية الفلسطينية ومصالحها وارتباطاتها، أيضا بسب الوضع العربي العام وضغوط الأنظمة العربية. أما الاحتمالين أو السيناريوهين الثالث والرابع وبالرغم من حمولتهما الوطنية وقربهما للحس الشعبي ونتائجهما التي قد تعيد الاعتبار مجددا للقضية الفلسطينية وتخلق حالة من التوتر في فلسطين والمنطقة ستجبر واشنطن وإسرائيل على إعادة النظر في سياساتهما، إلا أنه يجب التفكير والاستعداد لما قد يترتب عنهما من مخاطر.
حتى مع افتراضنا أن القيادة تساوقت مع الجماهير وقررت قلب الطاولة وحل السلطة أو سحب اعترافها بإسرائيل أو رفض التعامل مع الإدارة الامريكية، أو جميعها، إذا أقدمت على ذلك قبل تحقيق الوحدة الوطنية والتوافق على استراتيجية وطنية للمقاومة والصمود، وقبل إعادة بناء منظمة التحرير، فإن النتائج قد تكون كارثية ومنها:
أ- أن تجد إسرائيل وواشنطن بديلا ليحل محل منظمة التحرير في إدارة السلطة والتعامل مع ما يسمى الصفقة الكبرى.
ب- أن تحدث فوضى تؤدي لقيام إسرائيل بضم الضفة أو أجزاء كبيرة منها، واستدعاء تدخل أردني لتقاسم وظيفي مع ما سيتبقى من الضفة.
ج - أن يتم حل السلطة في الضفة وتستمر في قطاع غزة وهذا سيؤدي لدولة غزة، والظروف مهيئة لذلك من خلال زعم إسرائيل أنها لم تعد تحتل قطاع غزة، وإعلان لجنة قانونية تابعة لمحكمة الجنايات الدولية قبل أيام بأن قطاع غزة ليس أراضي محتلة، وما راكمته عشر سنوات من أوضاع متباينة بين غزة والضفة، بالإضافة إلى تعثر عملية المصالحة.
لتجنب هذه التداعيات في حالة التوجه للتصعيد مع إسرائيل وواشنطن يجب تهيئة الوضع الداخلي من خلال:
1) التسريع بالمصالحة والخروج من عبثية مهزلة الحوار حول الرواتب والموظفين وكهرباء غزة، والانتقال منها للوحدة الوطنية حول القضايا الكبرى.
2) سرعة إحياء وتفعيل منظمة التحرير التي تستوعب الجميع لتملأ فراغ حل أو إنهاء السلطة.
3) سرعة إجراء الانتخابات لتجديد الطبقة السياسية المأزومة.
4) وفي نفس الوقت التنسيق مع الدول التي تدعم الحق الفلسطيني لتستمر في دعمها للفلسطينيين، ونعرف أن ذلك قد يؤدي للاصطفاف لأحد المحاور المتصارعة في المنطقة وهذا قد يزيد الأمور تعقيدا.
وفي الختام نقول بأن الرد الفلسطيني وخصوصا الشعبي على القرار الأمريكي سيكون البوصلة التي توجه التحركات الرسمية والشعبية الدولية والعربية والإسلامية، ونأمل أن يتصرف الفلسطينيون بما تمليه عليهم مسؤوليتهم الوطنية، فالقضية في النهاية قضيتهم والمصير مصيرهم.
اضف تعليق