لقد حمل الامام علي بن الحسين زين العابدين السجاد (ع) ــ تصادف ذكرى استشهاده يوم الاربعاء القادم (١٩ تشرين الثاني) ــ على عاتقه أربع رسائل، هي على التوالي:

رسالة كربلاء

رسالة الحقوق

رسالة الدعاء

رسالة التربية والتعليم

والذي ينتبه الى جوهر الرسائل التي يتصدى لها كل امام من أئمة أهل البيت (ع) سيلاحظ انها تنبع من ظرفية الزمان والمكان الذي يعيشه كل واحد منهم، فاختيار الرسالة لا يأتي من فراغ وهي ليست عبثية أبداً، بل انها رسائل هادفة تصيب الحقيقة والحاجة بلا زيادة او نقصان أبداً، وعلينا ان نتعامل معها على هذا الأساس، لنفهم ونعي هدف هذه الرسائل بشكل دقيق، لنُحسن الاختيار عندما نريد ان نركن اليها حسب الظروف والحاجة، طبعاً من دون ان يعني ذلك ان ليس فيها رسائل شاملة تنسجم مع كل زمان وفي كل مكان.

هذا من جانب، ومن جانب آخر، فان كل رسائلهم عليهم السلام، مهما تنوّعت ومهما اكتسبت من اولوية، بعضها على البعض الاخر، إنما جوهر هدفها هو تحقيق العدل في المجتمع، على اعتبار ان العدل هو جوهر رسالات السماء، ولذلك فان مشروع الظهور المقدس للامام (عج) يَصُبُّ في هذا الهدف، فهو (يملأ الارض قسطاً وعدلاً).

والآن: لماذا اختار الامام السجاد (ع) هذه الرسائل تحديداً دون سواها؟.

لمعرفة الجواب ينبغي لنا ان نتخيّل، أولاً، عِظم الحادث الذي شهدته كربلاء في يوم عاشوراء، فانْ تقتل الأمة ابن بنت نبيها (ص) بعد مرور اقل من نصف قرن من رحيله الى الرفيق الاعلى من بين ظهرانيها، وبتلك الطريقة المفجعة، فهذا يعني انها كانت تمر بأمراض اجتماعية واخلاقية خطيرة ورهيبة، كما يعني ذلك انها كانت مصابة بانحراف عظيم.

من خلال هذا التصور يمكننا ان نجيب على التساؤل؛ لماذا اختار الامام (ع) هذه الرسائل تحديداً.

بالنسبة الى الرسالة الاولى فهي شيء طبيعي ان يتصدى لها الامام على اعتبار انها محور حركة الاسلام التي تقتضي التبليغ لمعركة الحق ضد الباطل، والتي تجسدت في كربلاء في يوم عاشوراء عام ٦١ للهجرة بشكل عميق وواسع جداً، ففي لحظة إطلاق الامام الحسين (ع) ملامح خط سيره ضد الظلم عندما قال {مثلي لا يبايع مثله} تجسّدت أسس الصراع بين الحق والباطل لتصل الذروة باستشهاده (ع) في كربلاء وبقرار مباشر من ابن الطلقاء الطاغية الارعن يزيد بن معاوية حفيد آكلة الأكباد هند وحمامة صاحبة الراية في الجاهلية.

لقد بذل الأمويون جهداً عظيماً لمحو أثر كربلاء، وفي المقابل بذل الامام السجاد (ع) جهداً عظيماً للحفاظ عليها متّقدة، عصيّة على التحريف والتخريف، فكان ان نجح الامام وفشلوا، وإنّ ما نراه اليوم من شعائر تحيي ذكرى عاشوراء الا دليلٌ على ذلك.

اما الرّسالتان الثانية والثالثة، فقد نبعتا من الواقع المر الذي مرت به الأمة بعد كربلاء، بل ان كربلاء كشفت عن هذا الواقع المر الذي كان بحاجة الى علاج جذري يمسّ اعادة بناء الشخصية (المسلمة) من جديد.

فعندما ترتكب الأمة جريمة بشعة وعظيمة تمثلت بحزّ راس سِبْط رسولها الامام الحسين (ع) وذلك بعد اقل من نصف قرن على رحيل جده رسول الله (ص) الذي قال عنه {حسين مني وانا من حسين} و {الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة} فان ذلك مؤشر على وجود خلل عميق في الشخصية (الاسلامية) على مستويين: الاول؛ هو العلاقة مع الله تعالى، والتي عالجها الامام السجاد (ع) برسالة الدعاء، والثاني هو العلاقة مع بعضها البعض الاخر، اي العلاقة داخل المجتمع الاسلامي، والتي عالجها الامام (ع) برسالة الحقوق.

فعندما نرى المجتمع يتقاتل على أتفه الأشياء ويشي بعضه بالبعض الاخر ولا يحترم الصغير فيه الكبير ولا يعطف الكبير فيه على الصغير، والمرأة فيه مُهانة والسلطة ظالمة للرّعية والاخيرة لا تنصف الاولى، وهكذا، فهذا يعني ان في المجتمع خللٌ خطير في فهمه للحقوق والتي تعني الحدود، فلو كان المجتمع يفهم حدوده لما تجاوز احدٌ على حقوق أحدٍ.

كذلك، عندما تشيع المظالم والفواحش والجرائم في المجتمع فذلك مؤشر على الفجوة الكبيرة بينه وبين الله تعالى، الامر الذي لا يمكن علاجه الا بالدعاء الذي يعيد هذه العلاقة الى مسارها الصحيح.

ان ما يمرّ به العراق اليوم سببه امران:

الاول؛ هو ضياع الحدود التي ترسم معالم العلاقة بين أبناء المجتمع الواحد، فبدلاً من ان تحكم قيم مثل المواطنة والمساواة والعدل والكرامة والتكافل الاجتماعي والتسامح والتراحم والتعاون وغير ذلك، العلاقة بين أبناء المجتمع العراقي، نرى ان (قيم) مثل التباغض والتلاعن والظلم والتفرقة على أساس الدين والمذهب والإثنيّة والمناطقية والعشائرية والكراهية والتربّص والاستئثار وروح الانتقام وغيرها من الأمراض الاجتماعية هي الحاكمة في المجتمع العراقي، وهذا لا يمكن ان نعالجه الا بالعودة الى مفاهيم الحقوق المتبادلة بين الناس ليقف كل واحدٍ عند حدّه فلا يتجاوز على حق الآخرين مهما كانوا، زوج او زوجة او اولاد في العائلة الواحدة، او أستاذ وتلميذ ورئيس وموظف صعوداً الى المسؤول والمواطن، مهما علت درجة هذا المسؤول ومهما دنت درجة ذاك المواطن، فالكل متساوون في الحقوق والواجبات بلا تمييز او امتيازات خاصة، الا ما ميّزهم به القانون ومعايير الانسانية مثل العلم والخبرة والتجربة والنجاح والخدمة العامة وغير ذلك.

اما الثاني: فابتعاد المجتمع عن الله تعالى، والا؛ ماذا تسمي تورط جماعات العنف والارهاب بدماء الأبرياء وبهذه الطرق الوحشية التي تقشعرّ لها الابدان؟ لو كان هؤلاء قريبون من الله تعالى هل ارتكبوا مثل هذه الجرائم؟ هل اعتدَوا على أعراض الناس واموالهم وممتلكاتهم؟ هل فجّروا ودمّروا الحضارة والتاريخ والمدنية كما فعلوا في الموصل الحدباء مثلا؟.

لقد عمد رسول الله (ص) الى قَصّ قميصه بالمقصّ عندما نامت عليه قطّة لانه لم يشأ إرعابها وإيقاظها بشكل تعسّفي، لانه كان قريباً من الله تعالى ويخشاه، فكانت رحمة الله قريبةً منه، اما هؤلاء الارهابيون فقد ابتعدوا جداً عن الله تعالى فأبعدهم رب العزة عن رحمته، حتى تورّطوا بكل جريمة نجسة يئسوا بسببها من رحمة الله تعالى ولسان حالهم قول الله تعالى {أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنتَ تُنقِذُ مَن فِي النَّارِ}.

اما الرسالة الرابعة والاخيرة، رسالة التربية والتعليم، فهي الأساس القوي والمتين لكل بناء حضاري، فإذا كان الطاغوت يعتمد سياسات التجهيل لتعمية المجتمع وتخديره، وبالتالي السيطرة عليه لاقتياده بالطريقة والوجهة التي يريدها، فان التربية السليمة والتعليم القويم هما المنبع الذي يعتمدهما الاسلام لخلق مجتمع حيوي يميّز مصالحه بشكل صحيح ولا يركن الى ظلمٍ او تعسفٍ أبداً.

لقد اعتمد الامام السجاد (ع) سياسات تربوية وتعليمية راقية افضت الى تغيير اجتماعي كبير، يشهد على ذلك الحركة العلمية التي ظلت من بعده عليه السلام ثم تطورت في زمن الإمامين محمد الباقر وجعفر الصادق عليهما السلام بصورة ملحوظة.

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق