حين تتحدث إلى مؤيدي حزب المؤتمر أو تقرأ لـ "أنصار صالح" في صنعاء، ينبئونك عن "غطرسة" حوثية و"استعلائية" غير محتملة، دع عنك حكاية "الهيمنة" والرغبة في التفرد والانفراد... وحين تتحدث إلى مؤيدي الحوثي أو تقرأ لـ "أنصار الله"، يبثون إليك مخاوفهم من "مؤامرة" تعد في ليل بهيم، ويبوحون بحذرهم من "حصان طراودة" جديدة، يجري بناؤه لاقتحام القلعة أو إسقاطها من داخلها... تحار في تصديق مَنْ وتكذيب من، لكنك تخرج بقناعة راسخة، أن "القلعة" باتت فعلاً مهددة من داخلها، وأن "شهر العسل" بين أصدقاء اليوم وأعداء الأمس، طال واستطال بأكثر مما ينبغي، وأن الوقت قد حان، لعودة الأمور بين الطرفين إلى ما كانت عليه، قبل "تحالف الضرورة" الذي جمع الشتيتين بعد أن ظنا كل الظن، ألا تلاقيا.
ليست المرة الأولى، التي تندلع فيها معارك السيطرة وتقاسم النفوذ وصراع السلطة بين أطراف تحالف صنعاء... لكنها قد تكون الأخيرة... حصلت معارك من قبل، لكن "أنصار صالح" لم يجدوا من يقرأ أو يستجيب لرسائلهم في عواصم التحالف العربي، وتحديداً في الرياض، مع أن أبو ظبي، "ثاني اثنين" في قيادة التحالف وزعماته، جادلت من قبل بضرورة الفصل بين صالح والحوثي، استيعاب الأول وعزل الثاني، وهي المجادلة التي رفضتها الرياض، "المجروحة" بما أسمته "نكران صالح للجميل".
هذه المرة، تغلبت السياسة على العواطف والمشاعر الشخصية على ما يبدو... ما أن لوّح صالح باستعداده لفتح صفحة جديدة مع دول الجوار العربي، حتى بادرته قيادة التحالف ببيان التعبير الثقة بقدرة الرجل وحزبه وصحبه، على العودة باليمن إلى حضنه العربي، بخلاف حليفه الانقلابي، الذي عمل على جر اليمن إلى المربع الإيراني، ولعب دور الجسر للنفوذ الإيراني في الخاصرة السعودية الرخوة، وتطاول على المملكة بقصف عمقها بالصواريخ التي "ربما تكون سعودية" وفقاً لتقرير للأمم المتحدة.
هذه المرة، وبخلاف سابقاتها، تحرك صالح بسرعة وقوة أيضاً، استعاد مربعاته الأمنية وسيطر على كثير من مؤسسات الدولية، ودعا اليمنيين لانتفاضة في وجه الحوثي، وحث عشائر "غلاف صنعاء" على مقاومة الوجود الحوثي، وأمر قواته المسلحة، بعدم الاستجابة لأوامر "الانقلابيين"... ثمة "انقلاب على الانقلاب" على ما يبدو، و"المخلوع" الذي أتقن الرقص فوق رؤوس الثعابين، يُظهر من جديد، أنه عصي على "الخلع"، وأنه بأرواح متعددة، وقادر على النجاة في كل مرة، يعتقد خصومه أن "خرج ولن يعود".
لا ندري على وجه الدقة، لماذا انفجر الخلاف بين "حليفي الضرورة" بهذه القوة والشراسة، ولماذا انتقل إلى الميدان بأسرع وأشرس مما حصل من قبل، ولماذا اعتمد طرفا الصراع، لغة لا تبقي للصلح مطرحاً... هل تلقى صالح إشارات قوية باستعداد التحالف السعودي لـ "عودة الابن الضال"، والقبول بدور متزايد له أو لنجله العقيد أحمد في مستقبل اليمن؟... هل وصلت للمخلوع إشارات بأن السعودية ضاقت ذرعاً بحرب اليمن، وأراد أن يقدم لها "سلماً" للهبوط عن أعلى الشجرة التي صعدت إليها زمن "عاصفة الحزم"، نظير ماذا وما هو المقابل؟... هل ضاق "المخلوق" ذرعاً بحق، بغطرسة الحوثيين ونزوعهم للهيمنة والتفرد؟... هل للمسألة صلة" بصواريخ الحوثي التي أخذت "تلعلع" في سماء السعودية، وخشيته مما قد يترتب عليها وبفعلها، من ردود أفعال خليجية وعربية من جهة، و"تمكين" إيراني في اليمن من جهة أخرى؟
طوال سنوات الحرب السعودية على اليمن، برز الحوثيون في صدارة المشهد اليمني، وتقدموا الصفوف في قيادة القوات المحاربة للتحالف العربي وأعوانه... وظل "المخلوع" يحيل الجميع إلى قيادة الحوثي، بوصفه المسؤول عن "عجر الوضع في شمال اليمن وبجره"، مع أنها لاعب رئيس في اليمن، شعبياً وعسكرياً وسياسياً، وهو أمرٌ غير مألوف في سلوك صالح وتاريخه، وكان أمراً مستهجناً ومثيراً للتساؤل، فهل كان الرجل يسعى في توريط الحوثي، هل كان يقدمه إلى المقعد الأمامي لحرقه بانتظار لحظة قطف الثمار، هل آن آوان قطف الثمار في الأزمة اليمنية، هل بقيت ثمار في اليمن أصلاً ليصار إلى قطفها وتجميعها؟
يبدو أن المشهد اليمني في طريقه للانقلاب مجدداً، إذ بالتوازي مع عودة الجهود للتوصل إلى حل سياسي للأزمة على وقع المأساة الإنسانية غير المسبوقة، ونتيجة لاستدامة هذه الحرب العبثية أكثر مما ينبغي وتفاقم ثقلها على من أطلقها... ويبدو أن مقتضيات الحل تقتضي إعادة فرز التحالفات والاصطفافات، أقله بالنسبة للقوى والأطراف التي تتطلع لانتزاع حصة أكبر من كعكعة الحل... صالح يعرف من أين يؤكل الكتف، ويعرف متى يقفز من السفينة إن هي شارفت على الغرق، ويعرف من يصافح ومتى ولمن يدير ظهره وكيف، فقد عركته عقود السلطة وسنواتها الطوال، وجعلت منها "ساحراً" يتقن اللعب بالبيضة والحجر أكثر من غيره من اليمنيين، فهل ينجح هذه المرة، أم أنه بصدد ارتكاب "غلطة الشاطر" التي قد تقضي على حاضره ومستقبله على حد سواء؟
هل يستجيب التحالف العربي لنداءات صالح: وقف الحرب ورفع الحصار، للتفرغ لتسوية الحساب مع الحوثي، أم أن قيادته ستجد في احتراب الأخوة الأعداء، ضالتها لتصعيد الحرب ورفع شدة المعارك ووتيرتها، بهدف الإجهاز على المحتربين خلف الأسوار وداخلها؟... وكيف سيتصرف صالح ، وكيف ستتطور علاقاته مع حليف الضرورة في كلتا الحالتين؟... أسئلة وتساؤلات نطرحها برسم الأيام المقبلة.
اضف تعليق