ليس المقصود بـ "تحييد الدبلوماسية" هنا، دعوتها للوقوف على الحياد، المعنى المقترح لكلمة "التحييد" مستوحى من بيانات تركية وروسية عسكرية، استخدمت المصطلح لتفادي اللجوء إلى مفردات كـ "القتل" أو "الإعاقة" الناجمة عن إصابة بليغة، ما يعني أن ما نقصده بـ"تحييد الديبلوماسية" هو قتلها أو "إعاقتها وتعويقها" عن القيام بدورها، ولا أقل من ذلك.
أزمات معقدة تشهدها المنطقة، بعضها قديم، وبعضها جديد تناسل عن قديمها.. فيما أطر العمل العربي المشترك، تبدو مشلولة تماماً، حتى أنها لم تعد قادرة على القيام بما اشتهرت به من قبل وما كانت تفعله باستمرار: إصدار البيانات والمواقف اللفظية، التي تؤكد الغياب ولا تعزز الثقة بالحضور... الجامعة العربية غائبة عن أزمة قطر، وتلوذ بصمت القبور حيال ما بات يُعرف بـ "أزمة الحريري".
لا زيارات ولا مناشدات ولا بيانات "رأب الصدع" و"تفادي الانزلاق" و"الحرص على المصلحة العليا"... لا شيء من هذا يصدر عن الجامعة وأمينها العام... يبدو أن حدة الاستقطاب في المنطقة، وانفلات السياسة وصيحات الحرب والتجييش من عقالها، وفرت للأمين العام، فرصة ذهبية للحصول على إجازة مديدة، مدفوعة الراتب... لا شيء يمكن أن يفعله أكثر من التثاؤب عند مشاهدة شاشات التلفزة وقراءة الصحف اليومية.
نسيت الجامعة وأمينها "تفويضها" ومبرر وجودها: تعزيز العمل العربي المشترك... اليوم ينخرط معظم العرب في حرب الجميع ضد الجميع، ويصبح اللجوء إلى أدوات الحرب كافة، مقبولاً ومشروعاً... فيما جامعة أبو الغيط تغط في نوم عميق وتلوذ بصمت القبور.
أما مجلس التعاون الخليجي، الذي قيل بشأنه الشيء الكثير، بوصفه التجربة الأطول والأنجح في التعاون والتكامل بين مجموعة من الدول العربية، فهو يعاني شروخاً وانقسامات حادة، ربما لا شفاء منها... كرة النار انتقلت إلى داخله، وبات الانقسام سيد الأحكام في صفوفه... المجلس معطّل بالكامل، وجرى "تحييد" أطره ومؤسساته، والتقديرات المتشائمة بشأنه تتوقع خسارة دولتين أو ثلاثة دول من دوله الستة، وخروجها في نهاية المطاف من ناديه المغلق... المجلس يقف منقسما في مواجهة تهديدات وتحديات، الأصل أنها مشتركة وتجابه الجميع من دون استثناء.
حتى الدبلوماسية الكويتية التي عملت إلى إدراك ما يمكن تداركه، أعلن أمير البلاد وصولها إلى طريق مسدود، وصدرت بشأنها بطاقة نعي قبل عدة أيام، مشفوعة بكثير من مشاعر والخوف من مغبة الانزلاق إلى أسوأ الاحتمالات والسيناريوهات... لا أحد يتحرك على هذا المسار، والكل بانتظار معجزة تعيد عقارب الساعة إلى الوراء، في زمن عزت في المعجزات، وتقطعت سبلها.
والأزمة المندلعة حالياً بين لبنان والسعودية، على خلفية "أزمة الحريري"، لا تجد من بين العرب، قادة منفردين أو مؤسسات عمل مشترك، من يتحرك على خطوطها... حتى أن الصمت ظل سيد الموقف بالرغم من مناشدات العماد ميشيل عون لعدد من القادة العرب التدخل لرأب الصدع وإغلاق الملف... وحدها "دبلوماسيات" دولية ما زالت تنبض بالحياة، وإن على استحياء، وتتحرك على أمل احتواء الموقف ومنع تفاقمه.
في زمن ساد فيه شعار "من ليس معنا فهو ضدنا"، وبات "الحياد" معه جريمة و"النأي بالنفس" خيانة والمواقف المرتبكة والمترددة لا مطرح لها، بات الجميع يخشى ويتردد قبل البوح عن عميق مشاعره، أو الإعراب عن رغبته ببذل المساعي الحميد وجهود الوساطة، الجميع يخشى عواقب التنطح لهذه المهمة، بالنظر لما يمكن أن تتسبب به لصاحبها والساعين من أجلها، من حرج ونتائج وخيمة... لذا تم "تحييد" الدبلوماسية، وضُرب صفحٌ عن أي محاولة لحلحلة الموقف وتفكيك عقده.
لا نلوم دولاً عريبة صغيرة أو متوسطة الحجم، اعتمادية في اقتصادها أساساً، على الاستنكاف عن بذل الجهد وتفعيل دبلوماسية الوساطة والإنقاذ... نعتب على دولة كبيرة كمصر ونأسف لها وعليها، ولا نلومها تماماً، لدورها الخجل في بعض الملفات... أما المسؤولية الكبرى، فتقع على عاتق المختصمين من أشقائنا، الذين يفتحون أبوابهم للمساعي الدولية، بل ويرحبون بها، حتى وإن لم يتجاوبوا مع مراميها، فيما يغلقون كل باب ونافذة ومنفذ، ممكن للأشقاء ان يتسربوا من خلاله بمشاعرهم الطيبة ومساعيهم الحميدة.
هي حالة الاهتراء المستدامة في النظام السياسي العربي والإقليمي، الذي فقد كل قدرة على العمل الإيجابي البناء، ويضيّع كل فرصة لتفادي الأسوأ، ويقف عاجزاً عن أن يأتي بأي حراك، ويمنح "ديبلوماسيته" إجازة مفتوحة، ويكتفي بالجلوس على مقاعد النظّار والمتفرجين، فيما النيران تقترب من أقدامه وتكاد تشتعل تحت سريره.
اضف تعليق