حار اللبنانيون في قراءة الرسائل السياسية السعودية، القصيرة نسبياً والغامضة بعض الشيء، سيما تلك التي استبطنتها وظهّرتها تغريدات وزير شؤون الخليج تامر السبهان، والتي حملت بلغة غير مسبوقة على حزب الله (الشيطان) وتوعدت بـ "تطهير" لبنان وحكومته منه... خاصةً وأن هذه الرسائل اقترنت ببدء "موسم الحجيج" إلى جدة والرياض، في دعوات عاجلة لأصدقاء السعودية، حتى أن بعض الإعلام اللبناني المحسوب على 8 أذار، اطلق عليها "استدعاءات" بدل "دعوات" لزيارة المملكة.
السؤال الذي أقلق اللبنانيين هو: هل تقرر تحويل لبنان إلى ساحة إضافية لـ"حروب الوكالة" المفتوحة بين الرياض وطهران؟، واستتباعاً: هل انتهى عصر "تحييد" لبنان عن الصراعات الإقليمية، وهل ولى زمن "النأي بالنفس" أو "النأي بلبنان" عن الحريق الإقليمي المشتعل؟... هل يقترب لبنان من لحظة "سحب الغطاء" الإقليمي – الدولي عنه، وهل فقد شبكة أمانه الإقليمية والدولية التي كان لها دوراً حاسماً في منع انزلاقه إلى حروب الجميع ضد الجميع التي اندلعت على مساحة الإقليم خلال السنوات السبع العجاف الفائتة؟...
ثم، ما مصير التوازن الهش والصفقة المفاجئة التي جاءت بالعماد ميشيل عون إلى قصر بعبدا وسعد الدين الحريري إلى السراي الحكومي، وهل ستجري الانتخابات المقررة في أيار/مايو 2018 في موعدها، وهي جزء من الصفقة كما قانون الانتخاب الجديد الذي يعتمد النسبية لأول مرة في تاريخ الانتخابات النيابية لهذا البلد القائم على نظام "المحاصصة الطائفية" والدوائر الانتخابية المفصّلة على مقاسات أمراء الحرب والطوائف؟
في السياسة، يمكن فهم التصعيد السعودي ضد حزب الله، في سياق تصاعد حمّى العداء بين القطبين السنّي والشيعي في المنطقة... فحزب الله، بات يمثل "رأس الحربة" في حروب محور بأكمله، ودوره تخطى لبنان إلى سوريا ومنها إلى العراق، وثمة تقديرات بأنه لامس حدود اليمن والبحرين... هذا أمرٌ مقلق للمملكة وحلفائها، الذين ينظرون منذ عدة سنوات إلى إيران بوصفها العدو الأول والتهديد الأكبر.
ولا شك أن المملكة ضربت صفحاً عن "صفقة عون – الحريري"، فلم تتحمس لها ولم تشهر "الفيتو" في وجهها، بالنظر لانشغالاتها الإقليمية الضاغطة من جهة، ولانخراط قيادتها في ترتيبات نقل السلطة وانتقالها داخلياً من جهة ثانية... لكن لبنان، كان وسيظل، وحتى إشعار آخر، واحدة من دوائر اهتمام المملكة ومن ضمن أولويات سياستها الخارجية... ودورها في لبنان، وإن شهد انكماشاً على وقع التطورات المتسارعة في سوريا، والتي أتت رياحها بخلاف ما تشتهي السفن السعودية، إلا أن أحدث جولة في الحراك الدبلوماسي في لبنان وحوله، تظهر أنه ما زال مدرجاً في قائمة الأولويات السعودية.
حسابات السياسة السعودية، ربما تختلف عن حسابات الميدان، فالذين توقعوا تأزيماً يفضي إلى انتشار الفوضى واستعادة الفراغ وتعطيل المؤسسات، ساورتهم المخاوف من مغبة الانزلاق إلى مواجهات دامية، سيما وأن تصعيد لغة الخطاب السعودي ضد حزب الله وحلفائه (التيار العوني بخاصة) تزامن مع تصاعد وتيرة الإجراءات الأمريكية العقابية لحزب الله، التي تستهدف بيئته وقواعده الاجتماعية، فضلاً عن تجفيف موارده المالية، ودائماً بهدف عزله وتأليب الرأي العام اللبناني عليه.
فالسعودية تدرك أن الذهاب إلى "صناديق الرصاص"، من شأنه أن يكون مغامرة غير محسوبة، سيما في ضوء التفوق العسكري الهائل الذي يتمتع به الحزب على جميع خصومه المحليين مجتمعين، خصوصاً بعد أن ضاعف ترسانته العسكرية مرات ومرات، وبعد الخبرات غير المسبوقة، التي راكمها مقاتلوه وقياداته في سنيّ الحرب في سوريا وعليها، وصولاً إلى العراق... مثل هذه المجازفة، لن تأتي بنتائج أفضل مما آلت إليه "الفريسة السورية" التي "تهاوش" عليها الجميع، حتى أفلتت منهم جميعاً، وفقاً لقاموس الشيخ القطري حمد بن جاسم.
لكن السعودية، وهي تدرك مخاطر اللجوء إلى "صناديق الذخيرة"، لن تسقط من حساباتها أن ثمة فرصة كامنة لتغيير المشهد اللبناني حين تدنو لحظة الاحتكام إلى "صناديق الاقتراع"، بعد سبعة أشهر إن لم يجدّ جديداً على الساحة اللبنانية أو الإقليمية... هنا تشتد الحاجة للفرز بين من هم أصدقاء المملكة ومن هم خصومها... هنا والآن، تشتد الحاجة لشد عصب جماعة "14 آذار" التي أصابتها رياح الوهن والفرقة واليأس والإحباط في مقتل... المملكة تعمل على عزل حليف حزب الله في الوسط المسيحي: التيار الوطني الحر، وتشجع خصومه ومنافسيه على التوحد في مواجهته، وهي إذ تضرب هذا التيار مباشرة، فإنها تسعى لإصابة عصفورين بحجر واحد، أهمهما حزب الله.
وثمة ما يحفز السعودية على تجديد حضورها اللبناني وتكثيفه، فالانتخابات ستجري بموجب قانون جديد، لا يضمن تلقائياً فوز أصدقائها بالأغلبية المطلوبة... وأصدقاء السعودية في أسوأ حالاتهم، بعد "تفاهمات معراب"، وثمة حاجة لاسترجاع "الحكيم" والقوات اللبنانية إلى شراكته التقليدية مع "المستقبل" و"الاشتراكي" وغيرهما، وثمة حاجة لتنويع "فرسان الرهان" في الوسط السني، بعد التراجعات التي سجلها الحريري على رأس "المستقبل" والتعامل مباشرة مع قيادات أخرى في هذه البيئة من مثل نجيب ميقاتي وأشرف ريفي.
ثمة مبالغة، أحسب أنها مقصودة في تقييم الحراك والمواقف السعودية الأخيرة من قبل فريق 8 آذار، هدفها تجييش بيئة هذا الفريق وتعبئتها، وهي مبالغة تسقط من حساباتها، أن ثمة لاعبين آخرين، إقليميين ودوليين في لبنان، ليس لهم مصلحة في إحراق البلد أو جرّه إلى "حفلة جنون"... وأحسب أن عيون السعودية تتجه صوب "صناديق الانتخاب"، وليس إلى "صناديق الذخيرة"، ففي الحالة الأولى، ستجد مروحة واسعة من الداعمين والمباركين والمؤيدين، أما في الحالة الثانية، فستمضي وحدها على الأرجح، أقله في المدى المرئي والمنظور، وربما حتى إشعار آخر.
اضف تعليق