الشأن السياسي في عالم اليوم ظاهرة معقدة والأكثر تعقيدا فيها السلطة باعتبارها العمود الفقري للسياسة، ففيها يتداخل المؤسساتي والقانوني مع الاجتماعي والديني والثقافي، وتتداخل فيها المصلحة الوطنية مع مصالح الأفراد والجماعات، وفي الحالة العربية فالسياسة والسلطة ليسا شأنا داخليا وتعبيرا عن سيادة الأمة وحرية الشعب بالاختيار بل للخارج دور في سياسة الدولة وخياراتها الاستراتيجية بل وفي ضمان وجودها واستقرار حدودها أو تغييرها، ونقصد بالخارج هنا دور الجوار أو الدول الكبرى.
لأن السياسة سلوك بشري وليست عالم ملائكة، لذا لا تخلو ممارستها من أخطاء وتجاوزات تتفاوت خطورتها بقدر ما تُلحقه من أضرار بالأفراد وبالمجتمع والدولة بشكل عام، ولكن في الأنظمة الديمقراطية فإن القانون وفصل السلطات ووعي الشعب تشكل كوابح وروادع تحِد من الشطط في السلطة وتحاسب كل من تسوَّل له نفسه من السياسيين تجاوز صلاحياته والتعدي على حقوق الشعب، بينما تغيب أو تضعف هذه الروادع والكوابح في الأنظمة غير الديمقراطية.
ومن جهة أخرى تفترق السياسة كممارسة عن السياسة كفكر وتنظير أو علم أكاديمي. صحيح أن هناك مدارس تنظيرية متعددة، كالمدرسة الواقعية القائمة على القوة وتوازن القوى والمصلحة، والمدرسة المثالية التي تسعى إلى ما يجب أن يكون من عالم طوباوي مسالم مُبرأ من الأخطاء، والمدرسة السلوكية التفسيرية وهي محايدة بين المدرستين الخ، إلا أن الواقع يبقى هو المحك العملي لصحة النظريات والأفكار.
المنَظِر والفيلسوف السياسي غير الممارِس للسياسة غالبا ما يرنو نحو المثالية وما يجب أن يكون، وقد ينجح نظريا في بناء عالم سياسي طوباوي أو مثالي كمدينة أفلاطون الخيالية، لذا تُطرح دائما إشكالية العلاقة بين المثقف أو رجل الفكر من جانب والسياسة وممارسيها من جانب آخر، فرجل السياسة حتى وإن استلهم أفكار المنظرين وقرر تحويل أفكارهم لواقع فإنه بالممارسة سيصطدم بواقع لا يتوافق مع الفكر المثالي وستكون فجوة ما بين الفكر أو ما يجب أن يكون من جانب والممارسة على أرض الواقع أو ما يمكن أن يكون من جانب آخر.
في جميع أنظمة الحكم العقلانية الديمقراطية فإن النظرية الواقعية هي السائدة، فالواقع هو المِحك العملي للحكم على الأنظمة والحكومات وعلى المعارضة السياسية وليس الأيديولوجيات والشعارات أو تنظيرات أصحاب المدرسة المثالية. والواقعية لا تعني التجرد من الأخلاق والمُثل أو التعالي على الشعب، بل قدرة النظام السياسي على الحفاظ على وحدة الدولة والمجتمع من خلال حماية المجتمع من التهديدات الخارجية وضمان الترابط والوحدة بين مكونات المجتمع، أيضا توفير شروط التنمية المستدامة بما هو متاح من إمكانيات وطنية وأقل قدر من التمويل الخارجي، والحد من الفساد ونهب المال العام، والحكم بالقانون والرجوع للشعب من فترة لأخرى لينتخب من يمثله ليحكم أو يشارك في الحكم، فالشعب لا يطمح للحكم مباشرة بل يريد أن تؤخذ آماله ومصالحه بعين الاعتبار عند الحكام، نفس الأمر بالنسبة للمعارضة فصدقيتها لا تتأتى من خلال شعاراتها بل بقدرتها على تقديم الأفضل للشعب.
بناء دولة القانون والديمقراطية يخففان من فجاجة الواقعية ويضفيان عليها مسحة إنسانوية، كما تجسران الفجوة ما بين الواقعية والمثالية. وعلينا ملاحظة في هذا السياق أن تعريف السياسة أو علم السياسية (political) باللغة الإنجليزية فن إدارة الدولة، ومعنى كلمة سياسة في المعاجم العربية (القيام على الشيء بما يُصلحه)، وهذا معناه أن تغيير واقع الجماعة البشرية المنظمة نحو الأفضل هو مناط الحكم على السياسة سلبا أو إيجابا.
تحقيق المصلحة العامة كهدف أسمى للحكم أو السلطة لا يتأتى بالشعارات والأيديولوجيات بل من خلال سلوكيات ومنجزات تنموية، وهذه تتحقق في الأنظمة الديمقراطية عن طريق الإصلاحات المتدرجة حتى وإن أخذت طابعا موجها وأبويا في بداياتها، وقد تحدث عن طريق الثورات والأنظمة الثورية إذا كانت حوامل الثورة وفكر الثوار يؤمن بالديمقراطية، ولكن من الأفضل أن تكون عن طريق تداول السلطة ديمقراطيا، فالثورة مسعى وطموح للتغيير السريع ولكنها غير مضمونة السيرورة والصيرورة، وكم من ثورات جنت على شعوبها، أما التغيير الديمقراطي الإصلاحي فهو بطئ ولكنه مضمون النتائج.
مع أن التجربة السياسية لأنظمة الحكم العربية تأتي خارج سياق التطور الطبيعي للدولة و التجربة التاريخية للغرب بسبب حداثة نشأة غالبية الدول العربية وخضوعها جميعا للاستعمار أو بسبب خصوصيات ثقافية يقف الدين أو تفسيره حسب ثقافة المجتمع على رأسها، إلا أن كل الشعوب العربية في مرحلة ما بعد الاستعمار حاولت تقليد أو اختبار أو استلهام التجربة الغربية سياسيا واقتصاديا، سواء على مستوى ولوج عالم الديمقراطية أو خوض تجارب ثورية متعددة، وما بينهما محاولات انقلابية لتغيير طبيعة النظام السياسي من ملكي إلى جمهوري أو انقلاب العسكر بعضهم على بعض، مما وسم المشهد السياسي العربي بعدم الاستقرار وجعل منه حقل تجارب لكل الأيديولوجيات.
قلة من الدول العربية استفادت من التجارب الإنسانية التاريخية وجنبت نفسها الوقوع في الفوضى أو تكرار تجارب فاشلة، حيث حافظت على درجة من الاستقرار وتغلبت على كل موجات التغيير الثوري والانقلابي دون أن تنغلق على ذاتها أو تصد رياح التغيير، حيث جَهُدت من أجل استيعاب وتدجين الأيديولوجيات وتوطينها لخدمة مسار تحول ديمقراطي متدرج يوائم ما بين الخصوصيات الثقافية والاقتصادية ومتطلبات الحفاظ على وحدة الوطن من جانب، واستحقاقات التحول الديمقراطي من جانب آخر، أو الموائمة ما بين الأصالة والمعاصرة، وهذا كان نتيجة عقلانية السلطة والمعارضة معا.
اضف تعليق