تبدو مشكلات واشنطن مع حلفائها في المنطقة، أشد تعقيداً من مشكلاتها مع أعدائها... معظم صراعات المنطقة وأزماتها، يقف فيها حلفاء الولايات المتحدة على طرفي نقيض، فكيف يمكن لإدارة غير قادرة (أو غير راغبة) في حل مشكلات حلفائها أن تكون في وضعية تؤهلها للتصدي لخصومها وأعدائها؟
في العراق، يحتدم الصراع بين بغداد وأربيل، واشنطن تقود تحالفاً دولياً للقضاء على الإرهاب في العراق بالاعتماد ميدانياً على هذين الحلفيين (الصديقين)، ما أن وضعت الحرب أوزارها على داعش، بل وقبل ذلك بكثير، حتى اندلع صراع، كاد أن يتحول إلى مطاحنة عسكرية كارثية بين الجانبين العربي والكردي... وحده تدخل إيران حال دون تأزم الموقف، وطهران استفادت من صراع حلفاء واشنطن، ووسعت نفوذها وسيطرتها، فيما الولايات المتحدة، تقف عاجزة بلا حراك، يتخطى المناشدات للأصدقاء والتحذيرات للخصوم.
لكن تجميد المشكلة بين بغداد وأربيل، لم يحل دون تراكم عناصر مشكلة أخرى، وأيضاً بين حلفاء واشنطن، هذه المرة بين السليمانية وأربيل، أو بين الاتحاد الوطني والديمقراطي الكردستاني... إن تفاقمت حرب الاتهامات والاتهامات المتبادلة، وإن ظلت السليمانية أو بعضها كياناتها، على قناعة بأن ساعة تصفية الحساب مع مسعود البرزاني قد أزفت، فليس من المستبعد أن يعاود الأخوة الكرد حروبهم، وهو أمر سيكون مكلفاً جداً للإقليم وواشنطن والعراق، وفي مطلق الأحوال فإن العلاقة بين جناحي الحركة الكردية قد أصيبت في مقتل، وهيهات أن تستعاد الثقة ويلتئم الجرح في المدى المنظور.
خارج العراق، بدا تحرير الرقة من داعش خبراً ساراً لواشنطن، أحيط باحتفالية مبالغ بها، العرب ممثلون بجيوش العشائر وميليشياتها وببعض قادة المعارضة المتدثرين بالأعلام السعودية والإمارتية، يظهرون ضيقاً بسياسات الهيمنة الإلحاقية التي تمارسها وحدات الشعب الكردية عليهم... كما أن ظهور الوزير السعودي ثامر السبهان إلى جانب الجنرال ماكغورك في عين عيسى، وتحت جداريات ضخمة للقائد الكردي المعتقل عبد الله أوجلان، الذي تعتبر أنقرة، رمزاً للإرهاب لا مثيل له سوى فتح الله غولن، سيشعل الكثير من الأضواء الحمراء في أنقرة... الكرد الذي اعتادوا استعجال الشيء قبل أوانه على ما يبدو، سارعوا لضم إقليم الرقة إلى فيدراليتهم، وهو أمرُ ينذر باندلاع صراع عربي كردي في المنطقة، لن يكون في صالح الكرد على المدى المتوسط، وبصراع تركي – سعودي (خليجي) أعتقد أنه سيحتدم قريباً، سيما بعد لجوء نطاقين سعوديين إلى استخدام تعبير "العدو التركي" في مقابلات فضائية، الأمر الذي أثار استغراب المذيعين والمستمعين على حد سواء.
أوثق حلفاء الميدان للبنتاغون هم أكراد العراق وسوريا، وألد خصومها هم المليشيات الشيعية في سوريا والعراق... الكرد في علاقة صراعية (وجودية) مع تركيا، أكبر حليف لواشنطن في الناتو، وعلاقتهم بأنقرة ذات طبيعة "صفرية"... واشنطن التي تقترب من وضع الحشد الشعبي في سلة واحدة مع حزب الله، ظلت حتى الأمس القريب توفر لقطعاته العسكرية غطاءً جوياً وصاروخياً في معارك الموصل وتلعفر وغيرها... وفي سوريا، هي ترى قوات حزب الله تصول وتجول على مقربة من أماكن انتشارها، من دون أن تقوم بأي حركة أو حراك، تشتم منه رائحة الاستهداف... ما الذي تريده واشنطن، وما الذي ترغب في فعله؟
في الخليج، حيث الثقل الرئيس لواشنطن ورأسمالها ومصالحها الاستراتيجية، تحتدم أزمة غير مسبوقة منذ استقلال الإمارات والمشيخات الخليجية في مطلع سبعينات القرن الفائت.... هذه الأزمة تقول واشنطن أنها غير قادرة على حلها، وأن فرص طيّ صفحتها ما زالت ضعيفة للغاية... أقرب حلفاء واشنطن إليها، يقتتلون فيما بينهم، ويمارسون أسوأ أنوع "حروب الوكالة"، على الأرض وفي الفضاء وعلى اليابسة والبحار والقنوات الخلفية والأمامية، تشتعل بصراع الأخوة الأعداء، فيما واشنطن تقف عاجزة (أو غير راغبة) بالتحرك.
البعض يستند إلى هذه المعطيات، وأخرى غيرها، للدلالة على عدم وجود استراتيجية للولايات المتحدة في المنطقة... لكن السؤال: ماذا إذا كان هذا الوضع الغائم، المائل للتردد وانعدام الحسم، المتطلع لإدارة الأزمات واحتوائها، وليس لإغلاق الملفات وحل الاستعصاءات هو هذه الاستراتيجية بعينها، ولا شيء آخر غيرها؟
لهذا التساؤل ما يبرره، صحيح أن هناك حدوداً للقوة الأمريكية في بعض أزمات الإقليم كالعراق مثلاُ أو سوريا، ولكن ماذا عن الأزمة الخليجية، هل ثمة عاقل يمكن أن يقتنع حقاً بان البيت الأبيض عاجز عن الجمع بين فرسان الأزمة ورموزها؟... أليس صحيحاً أن واشنطن هي المستفيد الأول من استمرار بعض الجراح النازفة والمفتوحة في المنطقة من دون علاج؟... ألا تمكن استراتيجية إدارة الأزمات بدل حلها، واشنطن من ابتزاز جميع خصومها وحلفائها سواء بسواء؟... ألم ترتفع صادرات السلاح الأمريكي للمنطقة، ألم يستمر النزف المالي ودفع الأتاوات والجزيات للبيت الأبيض العالي في واشنطن من قبل حلفاء واشنطن وأصدقائها؟... هل ثمة ما هو أفضل للولايات المتحدة، واسرائيل استتباعاً، من ديمومة حالة التآكل الذاتي التي تعيشها دول المنطقة وشعوبها، ومن تفاقم حالة النزف التي يعيشها خصوم واشنطن القابعين تحت سيف الابتزاز الأمريكي.
إن لم تكن استراتيجية "اللا استراتيجية" هي التوصيف الحقيقي للسياسات الأمريكية في المنطقة خلال الأعوام القليلة الفائتة، وإن لم تكن هذه الاستراتيجية مفيداً جداً في الحسابات الأمريكية، فلماذا حافظ ترامب على جوهر استراتيجية أوباما حيال الشرق الأوسط، ولم يفعل سوى إعطائها جرعة فائضة عن الحاجة، من التصريحات النارية والتهديدات السائبة والتحذيرات التي لا تجد من يرتعش لهولها؟
اضف تعليق