العلاقة المتوازنة والبناءة بين الدولة والمجتمع، هو ما أكده العلماء والمختصون، كما حذروا في الوقت نفسه من أي اختلال او اعتلال من شأنه انقلاب أحدهما على الآخر، ولا أجدني بحاجة الى أمثلة لأنظمة ديكتاتورية متذرعة بقوة الدولة، او لحروب أهلية حولت المجتمع الى دويلات متناحرة.
وكلما توفرت عناصر القوة الايجابية في الدولة، مثل العدل والحرية والمساواة والشورى والتزام مبدأ الحقوق والواجبات، كلما استشعر المواطن والمجتمع معاً، بالاطمئنان على نفسه وكرامته، وقد جرّب الحكام المتخرجين من المدرسة الاستعمارية في البلاد الاسلامية، سواءً من كانوا في قالب البزّة العسكرية، او في قالب التيارات الفكرية الوافدة، بأن يقدموا لشعوبهم نموذج الدولة القوية بغير العناصر التي يفكر بها المواطن، فهي وفرت له سبل العيش ولكن؛ في قفص كبير، تحت شعار "نفذ ولا تناقش"، وربما طبقوا مبدأ فرعون مصر الذي لقومه في محاولة منه لإبعاده عن النبي موسى، عليه السلام: {...مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ} (سورة غافر،19)، ثم ضاعت عقود طويلة من الزمن والشعوب تتكبد خسائر فادحة في التخلف والتبعية، وفي مراحل أخرى؛ في الصراع المرير والدامي مع ضحايا بالآلاف في السجون وساحات الاعدام.
وهذا تحديداً هو الذي يخلق دوافع التمرّد ثم الانفصام عن جسد الدولة الواحدة، ولذا نقرأ في تراثنا الحضاري الغر، صفحات مشرقة للعلاقة النموذجية بين الحالكم والامة، وبالامكان مراجعة رسالة أمير المؤمنين، عليه السلام، الى مالك الأشتر بعد أن ولاه مصر، وكيف يؤكد في فقرات عدّة على ايجاد العلاقة الصادقة والبناءة مع افراد المجتمع بمختلف مستوياتهم.
وقد اشار العلماء والمختصون الى سبل عدة للحؤول دون حصول هذا الانفصام، منهم الامام السيد محمد الشيرازي في كتابه "الصياغة الجديدة لعالم الإيمان والحرية والرفاه" الذي قدم مسألة القوانين التي "لايتمكن الانسان من العيش دونها"، ويؤكد سماحته من حيث المبدأ على قضية جوهرية في هذا المجال، وهي أن القوانين السليمة التي تخدم الانسان والمجتمع بشكل حقيقي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، "لن تأتي من خلال الشعب، ولا النخبة، ولا الديكتاتور، إنما المصدر يجب ان يكون؛ الله –تعالى-" بمعنى أن تكون القوانين متطابقة مع أحكام الاسلام وقيم السماء.
"هذه القوانين تكون ناجحة عندما تشتمل على المواصفات التالية:
1- أن يسود القانون على الجميع بشكل حقيقي لا نظري وشعاراتي.
2- ان يستوعب كل أبعاد حياة الانسان، بأن توفر حاجات الانسان الجسدية والعقلية والعاطفية، للفرد والمجتمع على حدٍ سواء.
3- التوازن بين الأخذ والعطاء".
إن فقدان مواصفات الدولة القوية في العراق هو الذي دفع الأخوة الكرد لارتكاب خطأ تاريخي فاحش ستكون له مآلات سيئة للغاية، ليس فقط اليوم، وإنما في قادم الأيام، عندما اصبحوا على حين غرّة، وسيلة للكسب السياسي والمادي من قبل فئة بسيطة في المجتمع الكردي، متمثلة بأسرة البارزاني الذي عبأ الشارع الكردي بالكراهية والشعور بالنقص والدونية في ظل الدولة العراقية، لذا ليس امامهم للعيش بشكل افضل إلا بالانفصال، بعد اجراء مسرحية الاستفتاء التي راقب فصولها العالم بذهول وحيرة، حيث انعدم وجود المراقبين الدوليين على مجريات الاستفتاء للتحقق من المصداقية، وما اذا كان الرغبة بالانفصال الذي يبحث عنه البارزانيين، تعكس وجهة نظر غالبية الكرد أم لا؟
وقد بحث الخبراء والمتابعين ملف انفصال الكرد عن الدولة العراقية، خلال الفترة الماضية، كفكرة ونظرية ثم محاولة تطبيقها على ارض الواقع، فتبلورت دوافع واسباب عدّة منها؛ ذاتية وأخرى بتحريض وتشجيع من الخارج، الى جانب الدافع الاقوى؛ وهو وجود التمايز العرقي او القومي او الطائفي، وايضاً الدوافع الاقتصادية والسياسية، بيد أن العامل الاكثر أهمية وتأثير على أرض الواقع، هو هشاشة الدولة وفقدانها لأدوات التأثير على المجتمع، فاذا كان القوة القاهرة والقمع والاضطهاد، وسيلة نظام حزب البعث لإسكات المطالبات بالانفصال طيلة العقود الماضية، فانه حريٌ بالنظام السياسي القائم أن يتّسم بالحكمة ويعطي صورة متماسكة لدولة ذات سيادة وقانون ونظام من شأنه توفير الحد الأدنى من حقوق المواطنين بمختلف انتماءاتهم وشرائحهم.
ولا ننسى أن حالة التذّمر من الفوضى واللامساواة والظلم، ربما موجودة في مناطق الوسط والجنوب العراقي اكثر مما موجود في الشمال منه، بيد أن الذي يجعل الشيعة على وجه الخصوص، قنوعين بالواقع الذي يعيشونه، كونهم يمثلون البلد برمته، وأن استقرار البلد والدولة مرهون بحفاظهم على الامن والاستقرار السياسي داخلياً لإعطاء رسالة القوة والتماسك الى المحيط الاقليمي والدولي، مع وجود بعض الحراكات المطلبية من تظاهرات واعتصامات جماهيرية تدعو الى مكافحة الفساد والمفسدين وتوفير الخدمات، لكن لا ترقى الى تهديد النظام السياسي بشكل عام.
بيد أن هذا لا يعني بأي حال من الاحوال بقاء الدولة العراقية معتمدة نظام المحاصصة السياسية وتوفير الأرضية للفساد الاداري والظلم والاجحاف ، لأن استمرار هذه النظام والمنهج غير المألوف في أي مكان بالعالم، من شأنه ان يثير في النفوس حالة التمرّد والعصيان مهما جرى الحديث عن الدستور والقوانين، فقبل أن تهدد الحكومة المتمردين والمعترضين، او تدخل في حروب كلامية او أزمات سياسية مُكلفة، عليها أن تبدأ من القمة وتقدم صورة حسنة لدولة قادرة على توفير متطلبات الجماهير وبالمقابل تستوفي الواجبات بشكل متوازن، حتى لا تتكرر تجربة الكُرد في الشمال الذين تورطوا في مأزق خطير وبنوا آمالهم على أوهام صنعتها لهم جهات اجنبية لا يهمها مصلحة الشعب الكردي.
اضف تعليق