كشفت احداث العقدين الذين شارفا على الانتهاء من القرن الحادي والعشرين عن جملة حقائق مهمة تستدعي التأمل فيها طويلا من قبل صناع القرار في العراق خصوصا، ومنطقة الشرق الأوسط عموما، ومن هذه الحقائق ما يأتي:
1- ان الحفاظ على تماسك ووحدة الدولة الحديثة في الشرق الأوسط مسألة أمن قومي بالغة الخطورة لجميع الدول –باستثناء إسرائيل والدول القزمية الاخرى- وأن أي تهديد لهذه الدولة يهدد الاستقرار والامن لبقية الدول في الوقت الحاضر وفي المستقبل، بصرف النظر عن اختلاف المصالح والنظم السياسية الحاكمة.
2- تقاطع المصالح بين الدول الإقليمية الرئيسة لا يجلب النفع لأي منها، بل على العكس يستنزف الطاقات البشرية والمادية للجميع بدون فائدة، فدول المنطقة الرئيسة (العراق، إيران، تركيا، سوريا، مصر، العربية السعودية) تكاد تتوازن في قدراتها بشكل أو آخر، ولا يمكن لأي منها تحقيق غلبة مطلقة على الاخرين، مما يجعل الصراع فيما بينها عبثيا، ولا يخدم مصالح حكوماتها وبلدانها.
3- الولايات المتحدة أصبحت دولة غير مستقرة في النظام الدولي، وتدحرجها عن قمة النظام الدولي مسألة وقت ليس الا، ولكنها في وضعها هذا هي دولة خطرة على السلام العالمي، فهي لم تستطع معالجة ملفات إقليمية صغيرة كملف النزاع الخليجي مع قطر، وملف التورط السعودي في اليمن. ولم تحقق انتصارات سياسية او عسكرية ذات شأن منذ بداية هذا القرن، فحربها في سوريا على وشك ان تخسرها، وحربها في العراق خسرتها فعلا، وحربها في أفغانستان تنوء بثقلها ولا تعرف كيف تتخلص منها. فضلا عن عجزها الواضح في تحمل مسؤولياتها كقوة حاملة للميزان في النظام الدولي، وتجد انها بحاجة ماسة الى إيجاد من ينقذها ويحفظ ماء وجهها في التعامل مع الملف النووي لكوريا الشمالية، وفي التعامل مع التمدد العقلاني والمحسوب بدقة للدب الروسي، وضعفها واضح في إيجاد حلول لازمات المناخ، واللاجئين، والإرهاب الدولي، والتقلب الاقتصادي العالمي وغيرها من الملفات الأخرى، ولعل اسوء كوابيس واشنطن هي أنها لم تعد الدولة التي تستطيع الزعم بأنها تحمل مشعل الحرية في العالم.
كل هذه الحقائق تجعل أمريكا بقوتها، وسوء ادارتها، وارتباك سياساتها الدولية من أكثر الاخطار التي تهدد العالم ومنها منطقة الشرق الأوسط، فأمريكا ومن اجل ان تثبت انها لا زالت المسيطرة على النظام الدولي ستحاول لعب دور مشعل الحرائق هنا وهناك في العالم، وستحاول اطفائها بطريقة أو أخرى، الا انها ستفشل في سياستها هذه في الإطار العام، وستعجل بتطورات دولية غير محسوبة العواقب.
4- دعم لاعبين عابرين للحدود من غير الحكومات، غالبا ما ينتهي بخضوعهم لتوجيه قوى من خارج المنطقة، تتلاعب بهم بالضد من مصالح الجميع، لتحقيق اجندات معينة.
5- ان الشرق الأوسط أشبه ببرميل بارود قابل للانفجار في أي لحظة، وانفجاره سيحرق الجميع، لذا من المهم جدا وجود استراتيجية إقليمية شاملة لإدارته، وإذا كان الربيع العربي، والإرهاب الداعشي على وشك ان يمر دون ان يفجر البرميل بالكامل، فانه لا يمكن الرهان مستقبلا على نفس النتائج.
من هي أطراف التحالف الرباعي؟
سمحت مجريات الاحداث بعد استفتاء انفصال اكراد العراق الذي جرى في الخامس والعشرين من شهر أيلول-سبتمبر الماضي بتبلور مرحلة جديد في الشرق الأوسط، أبرز ملامحها هو تعزيز إدراك حاجة بلدان الشرق الأوسط الى بعضها البعض لتلافي الاخطار الكبيرة التي تهدد أمنها الوطني والإقليمي، فالتقارب التاريخي في المواقف بين بغداد وانقرة وطهران ودمشق بشأن التعامل مع موضوع الانفصال لا ينبع من حرصها فقط على مصلحة العراق، بل من شعورها بان مصالح الجميع مهددة. ويبدو ان صناع القرار في هذه البلدان توصلوا الى قناعة بأنه عندما تكون التهديدات بحجم تفتيت الدولة الحديثة، وإعادة تشكيل الحدود الدولية، وتمزيق السلم الأهلي، وإيجاد منابع جديدة للفتن الإقليمية، لا تكفي إرادة دولة لوحدها لإيقاف الخطر، بل الحاجة الاستراتيجية تقتضي وقوف جميع دول المنطقة مع بعضها لمنع الحريق من التهامها جميعا بصرف النظر عن أي تقاطع بينها في المصالح.
هذه النتيجة التي وصلت اليها الدول الأربع، والزيارات المتبادلة التي تمت بين قادتها، وتلك التي ستجري في المستقبل القريب من الضروري ان لا تقف عند حد التعامل مع قضية معينة كالاستفتاء الكوردي المثير للسخرية، بل لا بد ان يتم الارتقاء بها الى مستوى مؤسساتي أكثر تقدما من خلال تشكيل تحالف رباعي يوحد سياساتها، ومواقفها، واستراتيجياتها. وكل المؤشرات تشير الى إمكانية قيامه، منها على سبيل المثال:
1- ان الدول الأربع هي من الأقطاب الرئيسة للقوى الإقليمية الشرق أوسطية التي تواجهها اخطار متماثلة تريد المس بسيادتها واستقرارها ودورها الإقليمي والدولي.
2- تجاورها الجغرافي، وتنوعها الاقتصادي يسمح بإقامة شراكات اقتصادية تعود عليها جميعا بالفائدة.
3- الدول الأربع تمثل امتدادا حضاريا لحضارات عظيمة، وبإمكانها ان تعيد مجدها الحضاري إذا ما احسنت وضع الاستراتيجيات الملائمة.
4- تتشارك الدول الأربع نفس المرارة في التعامل مع الغرب، ولا سيما الولايات المتحدة، اذ لم تنفعها سياسات التقارب أو التعاون مع واشنطن في منع الأخيرة من اتخاذ سياسات تشكل خطرا على امنها القومي.
5- تمتعها بإمكانات بشرية وثقافية واقتصادية وعسكرية وسياسية هائلة تؤهلها للعب دور إقليمي ودولي مؤثر.
6- علاقتها الجيدة مع موسكو يمكن استثمارها بطريقة إيجابية لتعزيز التحالف بينها، ومواجهة الاخطار الخارجية التي يمكن ان تواجهها، لاسيما ان موسكو اثبتت انها شريك يتمتع بالمصداقية والتوازن ويمكن الاعتماد عليه في الظروف الصعبة.
ما هي متطلبات تشكيل التحالف الرباعي؟
يتطلب الذهاب باتجاه تشكيل هذا التحالف توصل صناع القرار في البلدان الأربع الى قناعة راسخة بأهميته الاستراتيجية لحماية أمنها ومصالحها الوطنية والإقليمية، وان تستثمر الفرصة السانحة بسرعة لتحويله من طرح اعلامي الى واقع عملي على الأرض، فالإعلان السريع عن مثل هذا التحالف سيقمع الكثير من المخططات السيئة التي يُمهد لها من قوى عدة في المنطقة ومن خارجها، لذا يتطلب الأمر عقد لقاءات مستمرة تدفع باتجاه إقامة هذا التحالف، والاتفاق على الاستراتيجية الشاملة له، وان تركز اطرافه على المصالح الوطنية العليا لها، وتتجنب الخوض في المصالح الطائفية والقومية وما شابه ذلك، فالمصالح الأخيرة تمثل عنصر الهاء عن تحقيق المصالح الوطنية العليا، تلعب على وترها اطراف عدة لا تريد الخير لدول المنطقة.
كذلك من المهم في حال سارت الاحداث نحو إقامة هذا التحالف ان يُترك الباب مفتوحا للانضمام اليه من أطراف إقليمية أخرى، فمن المفيد ان يدرك الجميع ان هذا التحالف موجه لحماية السلم والامن الشرق أوسطي، وانه غير موجه ضد أحد أو طرف اقليمي بعينه. ان تشكيل التحالف الرباعي الاستراتيجي بين العراق وتركيا وإيران وسوريا سيحفظ الأمن الوطني والإقليمي للشرق الأوسط وسيكون بديلا عمليا عن تجارب سابقة فاشلة للتعاون الإقليمي.
اضف تعليق