على مرُ حقبة حكم نظام القذافى، كانت أمواج الأحلام والتبصير تكبر، وانتشارها يتسع بين الليبيين، وتأثيرها يشتد بين الحيارى والتكالى منهم، والمترددين خصوصاً، تستعصي سياسة الدولة بقصد أو بغير قصد، عن إيجاد سبل الحلول السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ويتعذر عليها تخطى المشاكل والمآسي والأزمات الفردية والعامة.
ومن هذا المنطلق كانت ومازالت شرائح كبيرة أو الأغلبية من أهل الوطن، تبادر إلى التعليق بالأوهام والمراهنة والتكهن على المجهول، وذلك أملاً بحدوث المعجزات المستحيلة، وعشماً بتحقيق الأحلام البعيدة المنال.
أمام إغواء وإغراء كل ما يحاكى ويدغدغ مكامن الآمال والتمنيات، ورغم إيماننا العميق بمقولة " كذب المنجمون ولو صدقوا " جعلت من معظم الليبيين يلجؤون إلى هذا المجال بسبب وضعهم المرير، أملا بحصولهم على شيء يثلج صدورهم ويوقع التغيير، وهو "ملاحقة الآتي ومطاردة المستقبل". وأمام هذا السيل الجارف من الانتهاكات والإخفاقات والنكسات والهزائم السياسية، وتردى الأوضاع، انتفض الليبيون على حكم النظام السابق في 17 فبراير، بقصد التحول إلى الأحسن والأفضل.
هذه الانتفاضة لم تكن الحلم والأمل المنشود، ولم تكن حقيقة الواقع وصورة التغيير، فالرياح تجرى بما لا تشتهيه قوارب النجاة والأمل بالحياة، لقد تشكلت الحكومات واستحوذ كل فريق على نصيبه، بعضهم أخذ بنص الدستور المعيب، وبعضهم بالنصب عليه، وبالتالي أصبح وسيبقى الخلاف متأصلاً في السلوك والتصرف والممارسات.
فبراير المجيدة تحقق أهدافها في هذا الوطن الجريح الذي يتلذذ ما يسمى ثوارها وساستها بزعزعة أمنه واستقراره.
فمن الطبيعي أن يكون التمسك بحكم السلطة والتنازع من أجلها هو "الغش المشترك" بين هؤلاء الساسة وصناع اللعبة السياسية وما يسمى بالثوار ما بجر الوطن إلى ما لا يحمد عقباه، والاتجاه به إلى مسلك ونهج خطير وهو المديونية والاقتراض من البنك الدولي، والطريق إلى الإعلان عن الإفلاس سيكون أمراً محتوماً، لو استمر الوضع الأمني والسياسي كما هو عليه، والذي بدوره يجرنا أمام وضع النفط مقابل الغذاء بسبب جهل أهل الساسة والسياسة السيئة، والدخيلة بالمزايدات، وشروط التعطيل والعرقلة، وكذلك أساليب التهويل من كثرة ما وعدوا وما أخلفوا.
فبراير تحقق أهدافها عبر هؤلاء الساسة والسياسة السيئة وذلك بعدم توفر الرعاية الصحية اللازمة والعلاج الكافي للمواطن، وعدم القدرة على اكتساب التعليم، وانقطاع الكهرباء بشكل متكرر ولساعات طويلة ومصطلح طرح الأحمال لم نعرفه من قبل، وأزمة السيولة والنوم أمام البنوك رجالا ونساءً طاعنين في السن والوقوف في طوابير تحت حر أشعة الشمس، وكذلك صعوبة الحصول على المياه النقية، وعدم وجود قنوات للصرف الصحي الخ…..
فأمام كل قرار سياسي مأزق، ووراء كل مأزق شارع أحمق، وهذا يعنى إن ليبيا يؤكل لحمها حتى العظم محلياً وعربياً ودولياً. نعم فبراير المجيدة تحقق أهدافها طيلة 7 سنوات عجاف.
دراسة علمية تقول إن ليبيا تأتى في المرتبة 84 عالمياً والتاسعة عربياً من حيث الفرص المستقبلية للشباب، وهذا مؤشر خطير وجدير بالنظر إليه، والشفافية الدولية تُصنف ليبيا في المرتبة الخامسة الأكثر فساداً في العالم، ومؤخراً وضع تقرير علمي ليبيا كثالث أسوأ دولة في العالم في المعيشة.
أما عن الأمن والاستقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي فحدث ولا حرج، حيث زاد معدل تهريب الموارد المحلية الموجودة فوق وتحت الأرض وكذلك الموارد المستوردة والتي يتم تهريبها إلى دول الجوار في غياب وانعدام تام لوجود هيبة الدولة وبسط السيطرة على حدودها البرية ناهيك عن ارتفاع معدل الهجرة غير الشرعية والاتجار بالبشر، وارتفاع معدل الجريمة والقتل والخطف والاغتصاب والابتزاز والنهب والسرقة والحرق للممتلكات العامة والخاصة والسطو على البنوك بقوة السلاح.
وليس هذا فقط بل حدث انهيار وتدمير كامل للاقتصاد الوطني جراء ارتفاع معدل الدين العام المحلى، والتآكل المستمر في الاحتياطي من النقد الأجنبي، وارتفاع معدل الإنفاق العام مقابل الانخفاض المستمر في الإيرادات العامة، مما سبب عجزا مالياً في الميزانيات العامة وبالتالي أدى إلى تأزم الوضع الاقتصادي.
الأمر لم يقف عند هذا الحد إذ حدثت موجات نزوح وتهجير أفراد وسكان مدن بحالها، قنوات إعلام فضائية محلية وإعلاميين هجروا خارج الوطن، وأحكام قضائية وقوانين صدرت تحت تهديد قوة السلاح، من اجل تحقيق أغراض وأهداف ومآرب تخدم تيارات وأحزاب سياسية من شانها تعقيد الوضع وخلط الأوراق وإرباك المشهد السياسي وإتساع الفجوة السياسية من الانقسامات بين الأجسام السياسية، ودخول الوطن في دائرة مفرغة من الفوضى وعدم الاستقرار الأمني والسياسي.
أما عن الساسة وصناع اللعبة السياسية والعصابات المسلحة والتي تسمي نفسها ثوار 17 فبراير، فهؤلاء جميعاً، إلا ما رحم رب العباد، ما هم إلا أدوات عن طريقهم حققت فبراير أهدافها بعودة الاستعمار إلى الوطن بمختلف أنواعه وصوره.
رئيس المجلس الرئاسي دخل الوطن بحماية ورعاية فرقاطة إيطالية، وقاعدة عسكرية وجنود إيطاليين بمدينة مصراتة، بوارج وقطع عسكرية ايطالية وبموافقة المجلس الرئاسي غير الدستوري تدخل المياه الإقليمية، وكذلك إيطاليا وجنودها تضع بصمات أقدامها في مدينة سرت بعد تحريرها من الدواعش، فرنسا هي الأخرى تصول وتجول في الجنوب الليبي، لقد رحل المستعمر القديم وحل محله المستعمر المتخفي بالمال والمخابرات والوكلاء المحليين.
ليبيا اليوم يتحكم فيها الساسة وصناع اللعبة السياسية بالتحايل على الإعلان الدستوري، الذي لم يعد يحكمنا، ولم نعد نحتكم إليه، فمواده يبدو إنها مصنوعة من مطاط يشده كل فريق إليه حسب مزاجه، إننا نعلم وندرك جيداً إن أي أفكار لإنقاذ ليبيا من الهلاك هي أفكار عقيمة لا أمل لها بالحياة، وبخاصة عندما تكون الإرادة الخارجية لبعض من دول المجتمع الدولي هي من تُسير وتتحكم وتحرك هؤلاء الساسة وصناع اللعبة السياسية والمليشيات.
فالوطن يحتاج إلى ثورة جديدة ويحتاج إلى صياغة جديدة ومتطورة، وإنقاذ سريع قبل أن يقتلعه الوضع الراهن من جذوره الوطنية ويحتاج إلى قيادة عسكرية وجيش قوى لفرض وبسط السيطرة على كامل التراب الليبي ونزع السلاح من كافة الكتائب وأمراء الحرب، ومحاسبة ومعاقبة الساسة والمجرمين المرتكبين للجرم وعدم إفلاتهم من العقاب.
هذه هي أهداف ومخرجات فبراير وبكل أسف لقد سلبت من المواطنين الليبيين سيادتهم وكرامتهم وحقوقهم ومكانتهم التي يستحقونها في شتى بقاع العالم.
فبراير وبعد كل ما ذكر تدخل حالياً في غرفة الإنعاش والموت السريرى بعد كل هذه الإخفاقات والفشل السياسي، وعدم جلب الأمن والأمان والاستقرار للوطن والمواطن.
والأمل الوحيد هو تصحيح المسار ولا بديل عن ثوره جديدة قادمة وقريبة جداً لرفع الغبن والجور والظلم عن الوطن والعباد، ثورة الجياع والمقهورين والمظلومين، لإخراج الوطن والمواطن الليبي من عنق الزجاجة، وبالتالي ستدوس بالأقدام كل الأجسام السياسية والساسة وما يسمى بالثوار والمليشيات وأمراء الحرب، وكل من عكر صفاء وسماء ليبيا الغالية.
اضف تعليق