القوة السياسية أحياناً تنبع من فوهة البندقية، كما قال الزعيم الصيني (ماو)، كما أنها تنبع أيضاً من الدبلوماسية والمساعدات الخارجية والنوايا الحسنة والقوة المرنة.
وبالنسبة للإدارة الأمريكية في عهد ترامب وخلال الأشهر الستة الأولى من ولايته لم يتضح بعد هل ترامب يلتمس في سياسته الخارجية سياقا يعتمد على القوة المرنة أم الخشنة..
فقبل تولي جيمس ماتيس وزارة الدفاع الأمريكية صرح تصريحا يعكس هذا الغموض في التوجه للإدارة، لقد التمس ماتيس من الكونغرس زيادة الإستثمار في دبلوماسية وزارة الخارجية. وقال: "إذا لم يتم تمويل وزارة الخارجية بشكل كامل، فإنني بحاجة لشراء مزيدا من الذخيرة"، وهذا يؤكد أن هذه الإدارة مستعدة لتدشين سياسة خارجية تتبنى في حالات ما نهجا صلبا وفي حالات أخرى نهجا مرنا، أما الرئيس دونالد ترامب فقد صرح أنه يخطط لزيادة الإنفاق العسكري بقيمة 54 مليار دولار، على أن يتم تمويل ذلك جزئياً من خلال خفض بنسبة 37% في موازنات وزارة الخارجية والوكالة الأميركية للتنمية الدولية. وهذا في حد ذاته يعطي إنطباعا مغايرا بأن ترامب يتجه للقوة الخشنة في سياسته الخارجية، وأكد ذلك باستكمال دعم التحالف الدولي للقوات المشتركة العراقية في الموصل وقوات سوريا الديمقراطية في الرقة إضافة إلى قصف مطار الشعيرات في سوريا بعد حادثة خان شيخون..
ولكن في مناسبات خارجية ودولية أخرى يتبنى ترامب نهجا مرنا في علاقات واشنطن مع المجتمع الدولي رغم عدائية شعوب كثيرة من دول العالم له شخصيا..
فلا زال هنالك تفاهمات عميقة بين ترامب وبوتين في المستوى العام فحدود التناقضات في سوريا وأوكرانيا ودول البلطيق تحت سياقات الإحتواء وهو يتغاضى إن لم يكن يشجع الكونغرس بزيادة العقوبات الإقتصادية والمالية ضد روسيا ويشجع عليها دول الأطلسي كذلك. فسياسة ترامب الخارجية إزاء روسيا يمكن تصنفيها لغاية الآن على أنها مرنة، ولكن مجتمع الحزب الديمقراطي وحتى شرائح من الحزب الجمهوري يتخذون سلوكيات خشنة يتغاضى عنها ترامب ممكن أن تشكل ضغطا على روسيا وترامب في توتير هذه العلاقة لتتصلب.
أما مع فرنسا: هنالك دلالات عميقة يحملها خبر الإعلان عن قبول الرئيس الأميركي دعوة نظيره الفرنسي إيمانويل ماكرون لحضور إحتفالات باريس باليوم الوطني، في 14 تموز الجاري. فيبدو أن الأبعاد للدعوة وقبولها براغماتية كامنة للطرفين على رغم كثرة نقاط الإختلاف والخلاف بين الزعيمين في مقاربتيهما لكثير من الملفات الدولية الكبرى. وقبول الدعوة لترامب جاءت نتيجة لزيارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لفرنسا، وهو ما يؤشر إلى رغبة قوية لدى ترامب للتنافس الجيوسياسي المرن مع روسيا من خلال إعادة بناء وتقوية علاقات فرنسا مع واشنطن وتجاوز الجفوة التي كانت متوقعة منذ البداية بينه وبين ماكرون من جهة، وتقديم نفسه أيضاً كزعيم أمريكي يجدد تعهدات الحماية والتعاون لأوروبا كلها وكطرف فاعل بإسمها على المسرح الدولي، من جهة أخرى.
إذ أن هنالك نقاط خلاف بين ترامب وماكرون، وخاصة حول ثلاثة ملفات ضاغطة هي الأزمة السورية، وسبل مواجهة تحدي الإرهاب، وإتفاقية باريس حول تغير المناخ. ومن الواضح أن هذه النقطة الأخيرة هي أكثر ما يتباعد موقف البلدين تجاهه، وخاصة بعد قرار ترامب بإنسحاب الولايات المتحدة من إتفاقية باريس للمناخ، وقد عبر ماكرون حينها عن إنتقاد صريح لهذا القرار، رافعاً شعاراً فيه سخرية مبطنة (لنجعل كوكبنا عظيماً) مرة أخرى، في إحالة إلى شعار ترامب الشهير (لنجعل أميركا أمة عظيمة)! وهذا منبع خلاف كبير قد يعقد مشهد إنتهاج سياسة خارجية مرنة مستقبلا تجاه فرنسا.
أما مع بريطانيا تؤكد عدم تلبية ترامب دعوة بريطانية لزيارتها جراء الغموض في السياسة الخارجية الأمريكية وذلك بسبب الأجواء العدائية ضده من طرف بعض القوى السياسية في لندن، ومن عمدتها أيضاً قد يدفع بترامب لتعكير أجواء التحالف القوي مع المملكة المتحدة. وكذلك علاقته مع ألمانيا. ففي ألمانيا تعمل السلطات هناك الآن على إعداد أستجابة ملائمة لمواجهة التظاهرات التي تعد لها بعض القوى السياسية الألمانية المناهضة لترامب المتوقع مجيئه إلى مدينة هامبورغ للمشاركة في قمة مجموعة العشرين خلال يومي 7و8 تموز الجاري.
وليست بريطانيا وألمانيا فقط هما البلدان الأوروبيان الوحيدان اللذان يواجه فيهما ترامب نوعاً من المناهضة والمواقف السلبية التي قد تدفع به إلى سلوكيات دبلوماسية صلبة، بل أن إستطلاع رأي أجراه مركز (بيو) للأبحاث أظهر تراجعاً كبيراً لشعبية الرئيس الأميركي في صفوف الأوروبيين بشكل عام، باستثناء بولندا التي سيزورها في يوم 6 تموز الجاري.
أما سياسة دونالد ترامب ازاء الصين فبعد شهر عسل في العلاقات بين واشنطن وبكين، إثر دخول ترامب البيت الأبيض ولقائه نظيره الصيني الرئيس جين بينغ، وكأن ترامب يسلك طريقا متساهلا مع الصين وأوحى بأنه يبحث عن شراكة سياسية إقتصادية معها، ولكن ترامب غير نبرته في مواجهة الصين، فترامب بدأ في الفترة الأخيرة يتبنى مواقف أكثر حزماً وأقل مجاملة للصين، حيث قرر بيع أسلحة لجزيرة تايوان، كما فرض أيضاً عقوبات على أحد البنوك الصينية. ويبدو أن الرئيس الأميركي أخذ يفقد صبره أخيراً على ما يعتبره عدم فاعلية في السياسة الصينية ازاء إستفزازات وتحديات كوريا الشمالية.
هذا قد يدفع الولايات المتحدة إلى تغير موقفها من الالتزام بسياسة (الصين الواحدة)، التي تنص على أن تايوان جزء من الصين، وهو مبدأ سياسي مهم للغاية بالنسبة لبكين رغم إستبعادي لهذا الإحتمال حاليا، والآن في إنتظار لقاء ترامب وجينبينغ، في قمة مجموعة العشرين، بعد أيام، يمثل عقد التسليح الجديد بشكل خاص مصدر إحتقان، وتصعيد ملفت في العلاقات بين الطرفين، من وجهة نظر بكين، وهو ما يتوقع أيضاً أن تكون له تداعيات مستقبلية سلبية محسوسة تصلب العلاقة بينهما.
وكذلك موقف ترامب من الهند فاللقاء الذي جرى مؤخرا بينه وبين مودي رئيس الوزراء الهندي أكد نقاط تقارب مرنة بين الطرفين أهمها موضوع مواجهات التحديات الصينية في شرق آسيا والعالم، وملف مواجهة الإرهاب، والموقف اليميني المتطابق نسبيا إزاء المسلمين، إلا أن مفترقات كثيرة تقف حائلا أمام هذه المرونة فملف العمالة الهندية في أمريكا فيه إختلاف وخلافات، وأيضا إتفاقية المناخ التي تؤيدها الهند وتستفيد منها وترفضها أمريكا وانسحبت منها قد تعيد تدوير خلافات ما قبل 2004 لواجهة العلاقات بينهما.
من كل هذا يمكن القول والتذكير "إن أجواء التشنج والإندفاع لإدارة ترامب إزاء فرنسا وروسيا وبريطانيا وألمانيا والصين والهند وهي دول نووية، وأعضاء دائمين في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة باستثناء الهند وألمانيا فهما عضوين غير دائمين فيه، ولذا فهذه الدول شريكة مهمة في صياغة مستقبل العلاقات الدولية والنظام الدولي الجديد في سياق مرونة العلاقة بينها".
وفي المجمل، يدرك ترامب أن تجاوز نقاط الخلاف بين أمريكا وهذه الدول ضروري، فهو يدرك تماماً إستحالة فعل شيء لحل الأزمة السورية، وصد خطر الإرهاب، ومواجهة تحديات الإحتباس الحراري وتغير المناخ ومواجهة خطر كوريا الشمالية وإيران ، من دون مرونة الولايات المتحدة تجاه هذه الدول، بإعتبارها قوة عظمى ليست وحيدة في عالم اليوم. كما يتعذر على ترامب أيضاً بلوغ هدفه بتكريس نفسه في صدارة الزعامة على المسرح الدولي دون إعادة التأكيد من جديد على عمق التحالف والشراكة بين الولايات المتحدة ودول مجلس الأمن وفق خطوات دبلوماسية مرنة متزنة.
لكن ما يقع فيه ترامب أو يتجاهله هو سوء فهمه لحال العالم، ولأهمية القوة المرنة فيه، كما أنه لا يؤمن أن القوة العسكرية تكون محدودة بشكل خاص عندما تأتي التهديدات من إتجاهات جديدة، وهذا ما يسلكه ترامب في سياساته الخارجية تجاه العالم فالخلط بين القوة المرنة والخشنة بشكل معقد مع ذات الأطراف الدولية والإقليمية الفاعلة يجعل تلك التهديدات والمخاطر واقعية.
اضف تعليق