يقتضي التفاوض حول اي صفقة بين بغداد وواشنطن عدم تكرار اخطاء الماضي، وفهم مصالح الطرفين، فالصفقات السيئة مصدر دائم للإزعاج، ونتائجها العكسية ستكون خطيرة جدا

نشر مجلس الاطلنطي مؤخرا تقريرا تحت عنوان "تقرير مجموعة عمل مستقبل العراق" أشرف على اعداده فريق بحثي رأسه السفير الأمريكي السابق في العراق (ريان كروكر) وضم أكثر من ستين شخصية مرموقة من جنسيات وتخصصات مختلفة، عملوا لفترة طويلة قاموا خلالها بتنظيم زيارات ميدانية ولقاءات عمل داخل العراق والولايات المتحدة وأوروبا وجرى فيها مقابلة عدد كبير من: المسؤولين الرسميين والافراد والمنظمات والجهات المدنية الفاعلة؛ بهدف تقديم ملف متكامل الى إدارة الرئيس الامريكي ترامب يحدد لها خياراتها المستقبلية في التعامل مع ملف مصالحها في العراق.

المؤشرات الإيجابية في التقرير

تبدو الكثير من المؤشرات الواردة في هذا التقرير ايجابية بالنسبة للعراق، فقد بدأ بالتأكيد على أن هدف واشنطن هو: " أن يصبح العراق مستقلا ومستقرا ومزدهرا، يحيا في سلام داخل حدوده ومع جيرانه، ويعكس حكما شرعيا وفعالا، ويميل بقوة الى التعاون الوثيق مع الولايات المتحدة في الشرق الأوسط"، وتضمن الإشارة الى أهمية بناء حكومة عراقية فعالة كأساس لإنهاء فشل الدولة وكسب ثقة الشعب العراقي، ومنع التطرف العنيف من البروز مرة أخرى، وربط استقرار العراق باستقرار الشرق الأوسط والعالم، بل ان الموقع الجغرافي للعراق بين ايران والسعودية قد يجعل أي انهيار للوضع في هذا البلد سبيلا الى حرب مباشرة بين هاتين الدولتين ستكون مجهولة العواقب.

لذا يقترح واضعو التقرير مساعدة بغداد في انجاز برامجها الإصلاحية من خلال آليات عدة تستهدف إقامة الحكم الرشيد؛ لتقديم الخدمات العامة على نحو احترافي، وضمان سيادة القانون، وشفافية الحكومة، وخضوعها للمساءلة، ومحاربة الفساد، وتطوير عمل المؤسسات الأمنية والعسكرية من خلال برامج التدريب والتجهيز المشتركة، وتعزيز الإدارة الحكومية بنقل السلطات من الحكومة الاتحادية الى الحكومات المحلية، ومعالجة عوامل الخلل في الاقتصاد العراقي، وتقديم مقترحات لجدولة الديون العراقية لا سيما المترتبة على العراق لصالح حلفاء واشنطن الخليجيين، وتحسين بيئة الاستثمار، وتطوير النظام الضريبي...

فضلا على اصلاح القضاء ورفع مستوى الأداء والشفافية والموثوقية فيه، وتعزيز الاندماج الوطني من خلال: ترسيخ الاستقرار، والمصالحة، وإعادة اعمار المناطق المحررة من داعش، وتوسط واشنطن لحل المشاكل بين حكومة بغداد وحكومة إقليم كردستان مع التأكيد على عدم اتخاذها " موقفا لصالح الاستقلال الكردستاني أو ضده، ولكن ينبغي عليها القيام بمساعدة الأطراف قدر الإمكان في تحقيق الأهداف التي وضعوها لأنفسهم".

لا شيء بدون ثمن

ان الحوافز المشجعة التي ستقدمها واشنطن لبغداد، حسب ما يضمره التقرير، ليست مجانية أو بلا مقابل، فما يميز هذا التقرير هو كشفه الصريح عن عدد من الرسائل التي يجب ان توجه الى صانع القرار العراقي من قبل إدارة ترامب في حال اخذها بما ورد فيه ومنها:

- عدم السماح بعد الان لإيران في ان تكون اللاعب الرئيس في العراق على حساب مصالح الولايات المتحدة، وتظهر هذه الرسالة جلية في الإشارات المتكررة لخطر النفوذ الإيراني في العراق على مصالح واشنطن، كون ايران تعد العراق خط دفاعها الأول، وتستغل نفوذها فيه لتحقيق مكاسب عدة في المنطقة، فيشير التقرير الى أن "مصالح واشنطن في الشرق الأوسط تقوضها الأنشطة المزعزعة للاستقرار التي تقوم بها ايران...كما أنها تشكل في بعض الحالات تهديدا مباشرا للأمريكيين في المنطقة"، وانه "من خلال موازنة الطموحات الإيرانية واستعادة العراق للاستقرار يمكن للولايات المتحدة أن تؤثر بشكل إيجابي على التطورات عبر عدد من الدول ذات الأهمية الاستراتيجية في الشرق الأوسط"، لذا يدعو بطريقة عرض الصفقات واشنطن الى "أن تضع نفسها كشريك أكثر جاذبية للعراق من ايران من خلال التركيز على الفوائد التي يمكن أن تجلبها للشراكة والتي لا تستطيع ايران تقديمها".

- أمريكا غير مستعدة لمغادرة العراق بعد هزيمة داعش، وتبدو هذه الرسالة واضحة من خلال دعوة الإدارة الامريكية الى اعتماد استراتيجية معززة للدبلوماسية العامة هدفها اقناع السكان في العراق "بأن الولايات المتحدة تسعى لدعم الاستقرار والنمو في البلاد"، وإقناع الشعب الأمريكي بأن "الجهود الامريكية المستقبلية في العراق لا تمثل عودة الى أيام بناء الأمم. فبدلا من ذلك يجب أن تفسر الاستراتيجية باعتبارها مشاركة استراتيجية، بهدف حماية المصالح الأمنية الامريكية"، كما تتضح بالدعوة الى عدم انهاء التحالف الدولي المشكل الان لمحاربة داعش بعد هزيمة التنظيم عسكريا، بل الحرص على استمراره وديمومته، فواشنطن لا تريد تكرار تجربة الانسحاب من العراق كما حصل في عام 2011 اعتقادا منها ان انسحابها في المرة الأولى ترتب عليه خسارة بغداد وجنوب العراق لصالح ايران ووكلائها، وخسارة شماله وغربه لصالح تنظيم داعش، وان تكرار الانسحاب سوف يقود الى نفس النتيجة على حساب مصالح واشنطن والامن القومي الأمريكي.

- لا تشعر بالأمان هذا ما يريد ان يقوله واضعو التقرير لصانع القرار في بغداد، فهزيمة داعش العسكرية الوشيكة لا تعني نهاية التهديد، بل سيتحول من تهديد فوق الأرض الى تهديد تحت الأرض هدفه زعزعة الامن في البلد، وان تجاهل مصالح واشنطن أو اجبارها على الانسحاب يعني عودة التهديد مرة أخرى من خلال جولة أخرى من الحرب الاهلية، لذا تتطلب هزيمة التنظيم الدائمة المحافظة على حضور امريكي "قوي عسكري ودبلوماسي وعلى مستوى المساعدة المقدمة للعراق".

- تقسيم العراق غير مستبعد من الطاولة، تبرز هذه الرسالة من عدم اتخاذ التقرير موقفا صريحا من النوايا الانفصالية لبعض الأطراف العراقية، ودعوة واشنطن الى البقاء على الحياد وترك هذه الأطراف تقرر ما تضعه من اهداف، وهذا ينطوي على ينطوي على رسالة كامنة بأن أوراق واشنطن للتأثير في الشأن العراقي كثيرة، وان احترام مصالحها ليس مجالا للتفاوض.

شروط الصفقة الناجحة بين بغداد وواشنطن

على الرغم من ان التقرير لا يمثل جهة رسمية في الإدارة الامريكية الا انه يسمح بتحديد ما تريده واشنطن من العراق، وما هي مستعدة لتقديمه، او قادرة على عمله، وهو يأتي في وقت تبدو فيه هذه الإدارة اكثر استعداد للاعتراف بأهمية العراق الجيواستراتيجية، واكثر جرأة للانخراط في نشاطات مختلفة للدفاع عن مصالحها الحيوية بوجه التهديدات الإقليمية والدولية، ولديها نفوذ متصاعد على حلفائها الإقليميين مما يمكنها من فرض شروطها عليهم بصورة تفوق ما كان لدى ادارة أوباما، كما ان هزيمة داعش في العراق واستعادة سيادة حكومته على أراضيها، وعقلانيتها ومقبوليتها المتصاعدة إقليميا ودوليا... كلها مؤشرات مشجعة ليمضي صانع القرار العراقي في طريق عقد صفقة ناجحة مع الولايات المتحدة، الا ان الشروط التي تهم المفاوض العراقي في هذه الصفقة لتؤكد نجاحها يجب ان تتضمن التزامات محددة من واشنطن بدونها تكون أي صفقة فاشلة ولا يمكن الخوض فيها، وهذه الالتزامات هي:

- ان يكون العراق شريكا فاعلا في الاعداد والتنفيذ لأية استراتيجية أمريكية تخصه أو تخص المنطقة، فجدول الاعمال لا يمكن ان يوضع من قبل الولايات المتحدة وحدها.

- الحصول على ضمانات أمريكية مؤكدة تضمن المصالح العليا للدولة العراقية وفي مقدمتها حماية وحدتها وسيادتها واستقلالها.

- عدم عقد أية صفقة على حساب حيادية العراق في محيطيه الإقليمي والدولي، فهو شريك لواشنطن وليس تابعا لها في مواقفها الدولية.

- استثمار العلاقة الجديدة بين الطرفين في استعادة قوة الدولة العراقية وتطوير اقتصادها، وبناء مؤسساتها الدستورية والأمنية وتعزيز قدراتها الدفاعية.

- الضغط على حلفاء واشنطن في المنطقة لإعادة النظر في مواقفهم من العراق وشعبه، ومنعهم من التدخل بشؤونه الداخلية، وحثهم على اتخاذ خطوات جدية باتجاه تعزيز العلاقات وتجاوز المشاكل بين الطرفين.

- أن لا يكون أي تواجد أمريكي على الأرض العراقية مستفزا لهوية العراقيين وسيادتهم، وان يحرص الطرفان على امتلاك بدائل جاهزة للتعامل مع المواقف المحرجة وبما يضمن استقرار الحكم في العراق.

- جعل بغداد ساحة للتواصل وتهدئة المواقف بين الأطراف الدولية والإقليمية وليس ساحة لتصفية الحسابات واستعراض القوة بينهم.

- وضع بنود في الصفقة تتضمن سعي واشنطن وبغداد للضغط على الأطراف الإقليمية والدولية لكبح جماح وكلائهم في العراق تعزيزا لحيادية العراق وحفاظا على امنه واستقراره.

- عدم ظهور المفاوض العراقي بصورة الزبون الذي يبيع خدماته لواشنطن على حساب مصالح خصومها، بل أن يظهر كمفاوض ماهر بإمكانه الحصول على المنافع مع جعل الجميع رابحين.

* مدير مركز الفرات للتنمية والدراسات الإستراتيجية/2004-Ⓒ2017

www.fcdrs.com

اضف تعليق