على المستوى الفلسفي يقصد بالهوية مجموعة من الاستعمالات والمعاني. وهذا اللفظ قد يستخدم للإشارة إلى ما تعارفوا عليه بالوجود والرابط، أي أداة الربط بين الموضوع والمحمول، الذي هو محل خلاف فيما بينهم..
وقد يراد بها عينية الشيء الذي يتعين بها على نحو انفرادي خالص، وتحتل التسمية مكاناً مهماً في علم المنطق لأن هناك ما يعرف بمبدأ الهوية الذي يتصل مباشرة بمبادئ العقل الأولى.. وما يتفرع منها من قواعد يعتبرها المنطق الأرسطي أساسيات الفكر الأولي.
الإنسان يصبح بكل المقاييس الأخلاقية والسلوكية حينما يصبح مواطناً صالحاً.. ومفهوم الهوية الوطنية لا يبحث في الكينونة المطلقة لما هو أخلاقي أو شرعي أو صائب بغية ترجمته إلى الواقع، وإنما يؤسس على ما هو قائم وفعلي مع السعي إلى تطويره وتهذيبه..
ولعل المعنى المقصود بمقولة الهوية هو ما يتبلور داخل النفس الإنسانية من توجهات فكرية ونظرية وروحية عبر السنين والتجارب ومن خلال التفاعل مع المحيط الطبيعي والاجتماعي سلباً وإيجاباً، وبالتالي ما يتكدس داخل الذات من مضمون تبلور بفعل الدين والتراث والتقاليد الموروثة عبر قرون من الزمن..
هذه هي الهوية، وهي تقبع في اللاشعور وتمارس دورها في التقويم والقبول والرفض والرقابة والتوجيه..
وعليه فإن الهوية ليست جوهراً أزلياً، وإنما هي تاريخ يتبلور، وهي المزيج المتداخل والمتفاعل مع مكوناته ذات الأصول المتعددة والمتنوعة.
والعلاقة النفسية والمعرفية التي تربط الأفراد بمحيط انتمائهم المباشر والتي تتشكل من خلالها قيم هؤلاء الأفراد وفهمهم لأنفسهم والعالم المحيط بهم..
ولعل الشيء الذي يربط بين الإنسان (أي إنسان) والمكان، هو ما نسميه الهوية التي تعطي للمكان الأساسي لكل إنسان معنى استثنائي..
فالجغرافيا التي ينتمي إليها الإنسان، تتحول إلى شيء مقدس بشكل مادي ومعنوي، من جراء الهوية التي تشكل المعنى الجوهري للإنسان سواء كان فرداً أو جماعة أو مجتمعاً..
وأفلاطون في جمهوريته، وابن خلدون في مقدمته، والفارابي في حواراته المدنية الفاضلة، وجان جاك روسو في عقده الاجتماعي، وماركس وأنجلز في بيانهما الشيوعي، وحتى أبواب الفقه الإسلامي المتعلقة بالمكان والوطن كلها مساعٍ نظرية متواصلة ومستدامة لتأسيس قيمي للمكان..
وعليه فإن الانتماء إلى الوطن ليس حالة طارئة أو هامشية في حياة الإنسان، وإنما هي من الحقائق والقيم العامة التي ينبغي أن يعتني بها الإنسان لدرجة أن كل الجهود النظرية حينما يفقد المواطن مواطنيته يصبح خائناً بمعنى من المعاني..
والإنسان يصبح بكل المقاييس الأخلاقية والسلوكية حينما يصبح مواطناً صالحاً.. ومفهوم الهوية الوطنية لا يبحث في الكينونة المطلقة لما هو أخلاقي أو شرعي أو صائب بغية ترجمته إلى الواقع، وإنما يؤسس على ما هو قائم وفعلي مع السعي إلى تطويره وتهذيبه.. ولعل في هذا أحد مكامن التوتر الأساسية بين دعاة الفكر الأيدلوجي وبين دعاة الهوية الوطنية من جهة أخرى.. ورغم أن هذا التوتر ليس حتمياً أو لازماً، ومصدر هذا التوتر هو أن المنحى الأيدلوجي ينطلق من تنظير فكري يقوم على مطلقات غير قابلة للشك، يفترض أن قاطني المكان يحتاجون أن يؤمنوا بها من أجل إقامة المجتمع المتكامل، وبالتالي فإن مهمة الأيدلوجيين تتركز على الترويج لهذه المطلقات مع النظر بارتياب لكل ما يخالفها أو يتصادم معها..
والعلاقة العميقة بين أهل الوطن الواحد بصرف النظر عن أفكارهم وميولاتهم النظرية تنتقل من خلال الوعي والسلوك القويم من الإلغاء إلى الإغناء.. والمطلوب وطنياً في كل الأحوال أن تكون كل التباينات والفروقات النظرية إلى الاستيعاب والإغناء بدل الإلغاء التي لا تنتهي من كل أطراف ومكونات الوطن الواحد.. لأن النزعات الأيدلوجية تعمل على خلق وطنها المفترض، مما يجعلها في كثير من الأحيان تضحي بوطنها القائم والفعلي.. والمطلوب دائماً إغناء الوطن الواقعي والفعلي بدل الاستمرار والجدل حول الوطن المتخيل في الأذهان والرغبات المجردة..
والتضخم الأيدلوجي بطبعه يدفع الإنسان صوب تخيل الأوطان والعيش الدائم على الوطن المتخيل..
بينما الرؤية الوطنية التي تستفيد من المرجعيات الفكرية والنظرية لكل المواطنين، تعمل على إثراء وإغناء الوطن الفعلي، بحيث تكون الهوية الوطنية الفعلية وليس المتخيلة هي أحد مصاديق النظرة السليمة لانتماء الإنسان إلى مكانه الذي يسمى وطناً.. وهو يتطلب باستمرار الوعي به والإخلاص إليه والدفاع عنه من قبل جميع المواطنين..
فالجميع يدافع عن الجميع حتى يعيش الجميع في وطن خال من الأمراض الاجتماعية والسياسية التي تساهم في تدمير الأوطان.. وعليه فإن التعدد الفكري في الدائرة الوطنية إذا تعاملنا معه بوعي واختلاف حضاري، لا يعد عيباً تتوجه كل الجهود والطاقات صوب نفيه والتعالي عليه، وإنما يصبح حالة طبيعية وتساهم في إثراء المضمون الوطني لكل الجماعات الوطنية..
والمطلوب التخلي عن فكرة إطلاق أحكام قيمية على بعض الأطراف والمكونات، والتعامل مع هذه الحقائق المتنوعة بوصفها حالة من حالات إثراء مفهوم الوطن والمواطنة، ولا يمكن صياغة مفهوم الهوية الوطنية بعيداً عن هذه الحقيقة الشاخصة في الوجود الاجتماعي والإنساني..
وكل الخصوصيات التي يعبر عنها ومنها أهل الوطن الواحد ليست خطراً على أحد.. والمطلوب في هذا السياق ليس تقليص الوطن على مقاس واحد، وإنما اتساع الوطن لكل الخصوصيات.. وكلما خفف الإنسان من نزعاته الأيدلوجية تعامل بواقعية وحضارية مع كل الأطراف والمكونات وما تضيفه هذه المكونات على الصعيد الوطني..
اضف تعليق