مما يؤشر إلى طبيعة المرحلة التي أعقبت عام 2003 في العراق هو شيوع حالة الإختلاف حتى أصبحت سمة ملازمة لكل المجريات وتمثلت بغياب الرمزية المشتركة وتشتت الهوية وكذلك العنف الواضح في الخطاب السياسي، لكن ثمة فرصة تأريخية سانحة لاحت بالأفق وما زالت متمثلة بالتصدي للإرهاب بنسخته الداعشية، حيث هبّ العراقيون بمختلف إنتماءاتهم للوقوف صفاً واحداً بوجه هذا العدو المتوحش.
ومن أجل الإستفادة من هذه الفرصة التأريخية التي مثلت رمزية موحدة متفق عليها من لدن أغلب أبناء الشعب العراقي لابد من التفاعل مع المتغيرات الحاصلة جرّاء الوقفة الجهادية، ويعد في طليعة هذه المتغيرات هو إبعاد الخلاف في بعده المجتمعي وإعادته إلى جادّة الخلاف السياسي، كذلك الإنتقال من الطائفي إلى الوطني وفي تجربة القتال المشترك ضد العدو الإرهابي من قبل فصائل الحشد الشعبي والبيشمركة والحشد العشائري مصداق أكيد على ذلك ومثلت ولادة رؤية مجتمعية جديدة توفر قاعدة للتعايش بين مكونات الشعب العراقي.
وإذا ما تمّ التمعن بطبيعة المتغيرات الشاخصة تتضح المقدمات المعقولة لبناء خطاب سياسي مقبول في أقل الأحوال مترافق ومتزامن مع تصاعد وتأثر الأداء القتالي للجيش العراقي انعكس بشكل واضح على موقع العراق وعلاقاته السياسية مع الإقليم أو على المستوى الدولي.
إن كل المؤشرات السابقة تشير إلى إن هناك مخاض عسير ينبئ عن ولادة جديدة للدولة العراقية وإذا ما اتجهت بعيدا عن إستثمار الفوز فستأتي الولادة مشوهة (لا سامح الله) وعلى النقيض من ذلك فيعد العمل البنّاء والعلمي القائم على إستثمار كل الإنجازات المتحققة مؤشرا على رسم صورة من التفاؤل لبناء الدولة على أسس متينة وراسخة بعيداً عن العنف.
ومن بين المخاطر والتهديدات لمرحلة ما بعد داعش ما تمثله محاولات تجديد السلوك الإرهابي وإنعاشه تماشيا مع منهج (إدارة التوحش) الذي يمثل عقيدة لكل من إنضوى تحت راية الفكر التكفيري لا سيما إن مكافحة الإرهاب كمن يعمل على إزالة الأدغال الضارّة عن حديقة منزله فإذا لم يتم إقتلاعها من جذورها ستعود سريعا وربما أقوى من شاكلتها السابقة.
وفي هذا نستذكر رأي المؤرخ البريطاني آرنولد توينبي في نظريته المعروفة (التحدّي والاستجابة)، حيث يشير إلى أن التحدّي عندما يتم الإستجابة إليه بتحدّي مواجه ومجابه حينها ستنهض الأمة وتقوم الحضارة، وعلى العكس من ذلك إذا لم يتم مقابلة التحدي بالتحدّي فسنكون أمام الركود والتأخر والإنحلال.
وعليه أمام كل التحديات الإرهابية القائمة والمحتملة وإنسجاما مع التضحيات الكبيرة المقدمة من الشعب العراقي وإستثمارا للإنتصارات المتحققة ودرءا لكل الفتن والمؤامرات المحاكة، لابد من إتباع جملة من الآليات وعلى مختلف الأصعدة ومن قبل كل الفاعلين في النظام السياسي العراقي، وسنحاول أن نعرض هذه الآليات وبشكل موجز بعيدا عن التنظير والمزايدة.
الآليات التربوية والفكرية
1- محو آثار التفكير العنفي والدموي والسلوك العسكري المتولد من مرحلة داعش وإشاعة روح التفاؤل وخصوصا قطاع الطلبة والشباب.
2- إنتهاج سياسة تربوية تعتمد على إستراتيجية واسعة معدّة من قبل جهات عليا في الدولة بالتعاون مع جميع المختصين والجهات ذات العلاقة وبالإعتماد على خطط قابلة للتنفيذ.
3- إتبّاع البرامج التربوية الهادفة إلى إزالة حالة الإنكسار النفسي لدى أبناء المناطق المحررة وإبعاد حالة اليأس عن تفكيرهم وطمس الصورة السوداوية المتولدة من ذهنيتهم عن المرحلة السابقة.
4- الإهتمام بالصورة الرمزية المؤثرة في الحالة العاطفية التي انبثقت من معارك التحرير وتعميقها في ذاكرة الجيل المتلقي كالعسكري الذي يحمل الرجل المسن على ظهره أو المواطن الذي يحتضن الجندي المقاتل، ولا بأس أن يصار إلى نشيد موحّد يحمل دلالات النصر والسلام والوئام ويمثل رمزية موحدة تحشد الطلبة والشباب وجمهور الشباب عاطفياً.
5- إعادة التذكير بالقيم والتراث العربي والقبلي الأصيل المتمثل بالكرم والتسامح وحسن الجوار والإخاء وحب الوطن والتذكير بماضي العراق وحضارته وأهمية وجوده.
6- إقامة معسكرات طلابية ومخيمات على مستوى العراق كافة في العطل الربيعية والصيفية للطلبة من أبناء المحافظات العراقية لترصين العلاقة بينهم.
7- الإهتمام بالإرشاد التربوي والنفسي ومتابعته بشكل جدّي ومباشر وفتح سجل لكل طالب ومتابعة أموره وإحتياجاته ووضعه الأسري ومدى تفكيره وميوله وإتجاهاته ومحاولة حلّ المشاكل التي يواجهها بأسرع وقت.
8- التذكير بالتضحيات التي بذلها العراقيون بمختلف إنتماءاتهم من أجل دفع الشر ورسم الصورة الإيجابية ومحو كل الصور السلبية.
9- الإستفادة من النسيج الإجتماعي العراقي وجعله قاعدة للإنطلاق نحو الحالة الوطنية من خلال (المجالس العشائرية) الوطنية البعيدة عن التسييس والمصالح الحزبية والإنتخابية الضيقة.
10- إقامة المؤتمرات العلمية في الجامعات والمعاهد العراقية لمناقشة موضوع الإرهاب وتوفير الدعم الكامل لها من قبل الحكومة للوصول إلى توصيات علمية بناءة.
الآليات في الجانب الاقتصادي
1- الإنطلاق بخطة إقتصادية قوامها معالجة الفقر والبطالة وتحريك القطاعات الإقتصادية الراكدة لإستيعاب العمالة.
2- الإهتمام بموضوع التوزيع العادل للثروة (الإرتكاز على مبدأ إعمار النفوس قبل إعمار البناء).
3- إنشاء صندوق لرعاية ذوي الشهداء والمعوزين والمحرومين والفقراء وتغطية إحتياجاتهم بعيدا عن أيدي الفاسدين.
4- وضع قوانين صارمة لمحاربة الفساد ومحاسبة رؤوس الفساد.
5- الإستفادة من خبرات الإقتصاديين والأكاديميين لوضع الخطط الطموحة لإنعاش الإقتصاد العراقي.
الآليات في الجانب السياسي
1- الركون إلى مراجعة شاملة وجدّية للعملية السياسية وتصحيح كل المسارات المتلكئة على أساس المصالحة والمصارحة.
2- الإنفتاح في العلاقات السياسية مع البعد الإقليمي على أساس المصلحة العراقية أولا والتوازن مع الجميع.
3- التوجه نحو إبرام عقد سياسي جديد بين الجميع على أساس المشتركات والثوابت.
4- الإستفادة من تجارب دول العالم في الوحدة الوطنية والتي تحمل في طيّاتها مكونات عدة وتمثّل أنموذجا للتعايش السلمي كالهند وماليزيا والولايات المتحدة وغيرها من الدول.
5- الإهتمام بالخطاب الفكري والسياسي الموحّد والناضج الذي يأخذ بنظر الإعتبار مصلحة الوطن ووضع صمامات أمان لضبط هذا الخطاب.
6- القيام بجهد دبلوماسي للتذكير بقضية وموقف العراق كونه المتصدي الأول للإرهاب وتنشيط الملحقيات الثقافية والسفارات والإستفادة من الجاليات العراقية هناك وعقد اللقاءات لمكافحة الإرهاب.
الجانب الأمني
1- الإهتمام بموضوع مأسسة القوات الأمنية والحشد الشعبي وضرورة الإستفادة من النتائج المتحققة في أداء هذه المؤسسات والخبرة المتراكمة لبناء مؤسسة عسكرية وأمنية وطنية فاعلة ذات رمزية واضحة.
2- الإهتمام بالتدريب العالي والتجهيز الجيد وضبط الحدود بعد إنتهاء العمليات العسكرية.
3- محاسبة القادة العسكريين الخارجين عن الأداء المهني بشدة وضبط ايقاعهم.
4- الإستفادة من التكنولوجيا وتجنيد الشباب الواعي المثقف في الأجهزة الأمنية الذي يستطيع التفاعل مع التقنية ومستجدات العلم الحديث.
5- التأكيد على الأمن المجتمعي والإهتمام بموضوع المصالحة والإستفادة من النسيج الإجتماعي والعشائري الموحد.
6- الإستفادة من الدروس المستنبطة من الحرب على داعش وكذلك الخبرات المتراكمة في موضوع مكافحة الإرهاب.
7- ضرورة إقامة أفضل العلاقات الأمنية مع دول العالم وتبادل المعلومات والخبرات والإستفادة منها في مجال مكافحة الإرهاب.
8- تأهيل العناصر التي تأثرت بالفكر الإرهابي وإتخاذ التدابير لإدخالها إلى حركة المجتمع والإنسجام معه.
الجانب القضائي
1- وضع تشريعات صارمة بوجه حلقات الإرهاب (ممول ومنفذ ومبرر وممجد) أيا كان عنوانه.
2- الإنطلاق بقوة في عملية تفعيل الأداء القانوني وتصحيح مساراته وإصلاح القضاء وإبعاده عن التسييس جملة وتفصيلا وإشاعة الثقافة القانونية.
3- إنصياع الجميع للقانون وجعل مبدأ (القانون فوق الجميع) واقعا وحقيقة لا شعارا.
الجانب الإعلامي
1- لابد من تنظيم وضبط حركة الإعلام للوصول إلى خطاب إعلامي وطني موحد وإتخاذ كل التدابير والوسائل لردع الشذوذ في الأداء الإعلامي.
2- ضرورة إنهاض الإعلام العراقي للقيام بدوره الداخلي والخارجي لإيصال صوت ورسالة العراق الجهادية وتوثيق سلوك داعش الإرهابي المجرم إعلاميا وفنيا وأدبيا.
3- إتباع إستراتيجية إعلامية لمرحلة مابعد داعش قوامها الإستفادة من تجارب المرحلة السابقة وتأهيل الواقع العراقي للمرحلة اللاحقة وإعادة النظر بشكل دقيق بخطاب وبرامج وأداء شبكة الإعلام العراقي.
اضف تعليق